في كلمته أمام الاجتماع السنوي لمعهد بُحوث الأمن القومي يوم الأربعاء الموافق 30/5/2012 إقترح وزير جيش الإحتلال الإسرائيلي إيهود باراك إمكانية دراسة تنفيذ إنسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية إذا ما فشلت المفاوضات مع الجانب الفلسطيني.
ومن الواضح أن هذا الإقتراح لم يكون وليد هذا الاجتماع السنوي بل كان محور نقاشات ودراسات مستفيضة جرت في دهاليزالسياسة الإسرائيلية التي إجتهدت في بحث الموضوع في وقت سابق وإلا لما كان لباراك التصريح بها في هذا الوقت ، حيث كان ذلك بمثابة بالون إختبار لخطوة إستراتيجية إسرائيلية للخروج من أزمتها السياسية مع الجانب الفلسطيني ، حيث أن مثل هذا السيناريو كان قد حدث في الماضي القريب عندما خاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون اللجنة المركزية لحزب الليكود في الخامس من كانون الثاني عام 2004 حول خطة الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة بشكل أحادي معللا ذلك بعدم وجود أفق للعملية السياسية مع الجانب الفلسطيني وتحديدًا حول وضع غزة، وفي الرابع عشر من نيسان 2004 أعلن شارون خلال إجتماعه مع الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جورج بوش عن تفاصيل عملية الإنسحاب الإسرائيلي من القطاع الذي تم الإعلان عن تاريخه التقريبي في النصف الأول من العام 2005 ( شهر حزيران على وجه التحديد) إلا أنه قد تم تأجيل الإنسحاب إلى شهر أيلول من العام ذاته لأسباب تقنية وهذا ما تم حيث إنسحبت إسرائيل من القطاع وأبقت على منطقة أمنية عازلة على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع بمسافة 87 كلم مربع وهي ما تشكل 24 % من مساحة القطاع الواقعة تحت السيطرة الفعلية للإحتلال الإسرائيلي وعليه حاولت إسرائيل من خلال تقديم الإنسحاب الأحادي الجانب للعالم وكأنه منَة إسرائيلية للسلام في حين أنها جعلت منه أداة لضرب مشروع الدولة الفلسطينية وتقسيم جغرافيتها.
اكثر من ذلك, قامت إسرائيل بإستغلال إطلاق الصواريخ عليها لاحقا لإحكام سيطرتها على القطاع من خلال معبر كرم ابو سالم او كما يطلق علية الاحتلال 'كيرم شالوم' كما قامت اسرائيل بتوسيع رقعة المنطقة الامنية على امتداد حدود القطاع الشمالية والشرقية وبالمقابل تقليص المساحة البحرية من ما كانت مقرة في اتفاق اوسلو من 20 كيلو بحري الى 3 كيلو بحري والخارطة التالية تبين الواقع الجيوسياسي الحالي في القطاع.
الواقع الجيوسياسي الحالي في القطاع
وقد استطاعت إسرائيل استثمار هذه الخطوة الأحادية الجانب بان رفعت صفة الإحتلال عن قطاع غزة حيث إنبرت أبواق الدعاية الإسرائيلية بالإشارة إلى أنه لم يعد هناك أي جندي إسرائيلي في القطاع وأنه تم سحب جميع المستوطنين رغم المعارضة القوية لهذه الخطوة والمشاهد الأليمة التي عرضتها محطات التلفاز لإخلاء المستوطنين من القطاع علما بأن القانون الدولي يقر بأن القطاع ما زال محتلا بإعتبار أن إسرائيل هي التي لا زالت تتحكم في منافذ ومعابر وصادرات وواردات القطاع, فاتفاقية المعابر اعطت لإسرائيل الحق في مراقبة والسيطرة على ما يدخل ويخرج من القطاع, ورغم إنسحاب المراقبين الأوروبيين من على حدود القطاع فإن إسرائيل ما تزال تسعى إلى التخلص من قطاع بشكل نهائي وتحويل مسؤوليته إلى مصر أو باتمام 'مشروع الجزيرة' التي اشارت اليها اسرائيل والمقترح بنائها قبالة سواحل القطاع لتكون بمثابة نقطة الدخول والخروج من والى القطاع. خارطة رقم 1
خارطة رقم 1: الوضع الجيوسياسي في قطاع غزة
'مشروع الجزيرة الاسرائيلي' قبالة سواحل قطاع غزة
ومن جهة أخرى إستطاعت إسرائيل تعطيل – وحتى إبطال الطريق الأمن ما بين غزة والضفة والمقرة في إتفاقية 'غزة أريحا' حيث أصبح الحديث عن هذا الطريق بمثابة الحديث عن وقف الإستيطان. ولا بد من الإشارة هنا بأن قطاع غزة تاريخيا لم يكن جزءًا من أرض إسرائيل (بحسب ادعائهم) ولم ترغب إسرائيل في إحتلال القطاع أصلا وحاولت مرارا وتكرارا التخلص من وجودها هناك عبر سنوات الإحتلال حتى أن رابين وهو أحد القادة التاريخيين للإحتلال واحد مهندسي العملية السلمية أجاب في أحد الأيام عن ما يريده من غزة قائلا ' 'أود لغزة ان تغرق في البحر، ولكن هذا لن يحدث، ويجب ايجاد حل' . وبالتالي فإن الإنسحاب من قطاع غزة لم يكن له أية معارضة أيدولوجية من قبل الحركة الإستيطانية. وفي المقابل صرح وزير الدفاع في حكومة شارون بأن الإنسحاب من غزة سيمكن إسرائيل من إحكام سيطرتها على الضفة الغربية.
وبعد إتمام مسلسلها للإنسحاب من القطاع غيرت إسرائيل من خطابها فيما يتعلق بأساسيات اتفاق السلام فبدلا من الإنسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967 أصبحت إسرائيل تنشد مفهوما جديدا حول جعل الضفة الغربية ( يهودا والسامرة) ذات سيادة مشتركة مع الفلسطينيين وذلك بإعلانها اللاءات الثلاثة : لا للعودة لحدود الرابع من حزيران 1967 ،لا لتقسيم القدس ولا للإنسحاب من غور الأردن.
مشروع الانسحاب الأحادي 'الثاني' من الضفة الغربية
والأن يخرج باراك على الفلسطينيين بالتلميح عن إمكانية قيام إسرائيل بمشروع أحادي أخر للإنسحاب من الضفة الغربية وفقًا لما يتوافق مع مصالح إسرائيل الأستعمارية والإستيطانية ففي الوقت الذي لا تزال فيه إسرائيل تسيطر على 61% من أراضي الضفة الغربية تقوم أيضا ببناء الجدار الفاصل على طول وإمتداد الهضاب الغربية للضفة الغربية لاقتناص 13 % من مساحة الضفة الغربية وضمها لإسرائيل بما في ذلك القدس الشرقية المحتلة.
هذا وقد رسمت إسرائيل الجدار بشكل يسمح لها بضم 107 مستوطنة إسرائيلية من أصل 199 مستوطنة حيث يقطن في تلك المستوطنات ال 107 قرابة 80 % من عدد مستوطني الضفة الغربية ( قرابة ال 500 ألف مستوطن) ، حيث تعتزم إسرائيل وبحسب ما صرح عدد من المسؤولين الإسرائيليين عن إمكانية إعلان الجدار حدود إسرائيل الشرقية مع الضفة الغربية وهذا ما يتوافق مع إقتراح باراك حول الحل الأحادي الجانب لتقوم إسرائيل من بعد ذلك بحصر منطقة التفاوض في المساحة الواقعة ما بين الجدار والحدود الشرقية للضفة الغربية على طول نهر الأردن ( منطقة غور الأردن والأراضي المحاذية للبحر الميت) حيث ستبقي إسرائيل سيطرتها على ما مساحتة 48% من أراضي الضفة الغربية شرقي الجدار والتي تمثل ما تبقى من منطقة 'ج' بما في ذلك منطقة العزل الشرقية، وعليه فإن إسرائيل تعتزم حصر العملية السلمية أو ما تبقى منها في مفاوضات تكون إسرائيل قد أرست قواعدها وذلك بالإنسحاب من المستوطنات المتبقة وعددها 38 في منطقة العزل الشرقية و 54 في منطقة 'ج' الواقعة ما بين الأخيرة والجدار الفاصل. خارطة رقم 2
خارطة رقم 2: مخطط جدار العزل العنصري في الضفة الغربية المحتلة
الواقع الجيوسياسي الحالي في الضفة الغربية
بيد أن خطة الإنسحاب الإسرائيلي من الضفة ستكون مختلفة في معطياتها عن ما حدث في القطاع ففي الوقت الذي إشترطت فيه إسرائيل وجود قوات دولية على طول الحدود الجنوبية لغزة مع مصر لم تفلح كافة محاولات ضبط الحدود لوجود المئات من الأنفاق ما بين غزة ومصر والتي شكلت مصدر قلق مستمر لإسرائيل حتى وصل الأمر قيام إسرائيل وعدد من الدول الكبرى بالضغط على قيادة مصر السابقة لبناء جدار فولاذي تحت الأرض على طول الحدود مع الجانب المصري للقضاء على الأنفاق ولم يكتمل المشروع لأسباب تقنية وبناءًا عليه ستكون خطة الإنسحاب الإسرائيلية في الضفة بناء على ترتيبات دولية حتى وإن كانت أحادية حيث ستشترط إسرائيل في مقابل الإنسحاب من المستوطنات ومناطق ' ج' الواقعة ما بين الجدار على الجهة الغربية من الضفة ومنطقة العزل الشرقية بان يتم وضع الأخيرة تحت وصاية دولية من الناحية الأمنية في حين يتم تسليمها إداريًا للسلطة الفلسطينية مما يعني سلطة إدارية على مساحة 87 % من أراضي الضفة الغربية غير أن القيمة الأكبر لإسرائيل ستكون ينابيع المياه والأحواض المائية التي ستبقى تحت سيطرتها في منطقة العزل الغربية والتي تستطيع من خلالها الإستمرار في إبقاء الحياة مستمرة في المستوطنات الإسرائيلية هناك والتي سرعان ما ستأخذ في التمدد والتوسع على حساب أراضي الفلسطينيين التي أعلنت عن معظمها أراضي دولة.
ويبدو أن إسرائيل تعد العدة لمرحلة الإنسحاب الأحادي الثانية بما يناسب ومخططاتها الرامية إلى التخلص من صفة ' الإحتلال' والإبقاء على الفلسطينيين ضمن مناطق جغرافية منعزلة عن بعضها البعض وبإمتيازات حدودية وأمنية محدودة تحفظ لهم إستقرارًا أمنيًا على حُدودهم وهذا أقرب إلى ما كان قد طرحه الإسرائيليين في بداية العملية السلمية وهو وضع الفلسطينيين في مناطق حكم ذاتي وإذا أرادوا أن يطلقوا عليها إسم دولة على تلك المناطق فليكُن.
مستقبل الوضع الجيوسياسي للضفة الغربية كما تخطط إسرائيل
ويتماشى ما سبق مع ما طرحه وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز في تشرين الثاني من العام 2009 خطة لدولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة وتقضي بإقامة دولة فلسطينية، دون القدس، في حدود مؤقتة خلال عام، وتقام على 60% من أراضي الضفة الغربية وخصوصا المناطق المصنفة «أ» و«ب»، التي تخضع لسيطرة فلسطينية جزئية، على أن يتبع ذلك مفاوضات حول الحل الدائم، بدعم أميركي في مسعى للإلتفاف على ما جاء في خطة خارطة الطريق للسلام والتي أقرها مجلس الأمن الدولي عام 2003 .
خطة موفاز لدولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة
وبناء على ما تقدم ونظرا لخطورة الطرح الإسرائيلي وتوقيته على مستقبل الدولة الفلسطينية فإنه يجدر على القيادة الفلسطينية ترتيب البيت الفلسطيني وأخذ زمام المبادرة في إعادة ترسيخ مرجعيات العملية السلمية على أساس دولتين لشعبين على حدود العام 1967 وذلك من خلال تفعيل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على أساس تطبيق قرارات الشرعية الدولية وتنفيذ الإتفاقيات الموقعة بين الجانبين والتأكيد على رفض مبدأ الأحادية في حل الصراع والذي سيؤدي لضرب المشروع الوطني الفلسطيني وترسيخ الإحتلال الإسرائيلي .
اعداد: