في التاسع والعشرين من شهر نيسان الجاري تنتهي فترة التسعة أشهر التي إتفق عليها الفلسطينيون والإسرائيليون وبرعاية الولايات المتحدة الأمريكية لإحياء المفاوضات أملا بالوصول إلى إتفاق سلام نهائي كما كان مقررا لها. لقد مضت مهلة التسعة أشهر بسرعة وتخللها جولاتٍ وزياراتٍ مكوكية لوزير الخارجية الأمريكي وممثل إدارة الرئيس أوباما لطرفي النزاع في محاولاتٍ لرأب الصدع وجسر الهوة بين الجانبين فلم يجد إلا المراوغة والتضليل من رئيس الوزراء الإسرائيلي وأركان إئتلافه اليميني المتشدد فكان التعنت والشروط المسبقة يتصدرا المشهد إلى أن قاربت المهلة على النفاذ وإزدادت الهوة بين الجانبين إن لم نقل أن الأقنعة قد سقطت عن جباه مدعي السلام والديمقراطية من قادة دولة الإحتلال الإسرائيلي.
تسعة أشهر مضت وظهر الوجه الحقيقي لرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أثبت للعالم أجمع بأن خوضه المفاوضات مع الفلسطينيين ما هو إلا مناورة وتحايلا على المجتمع الاسرائيلي من جهة للإبقاء على إئتلافه الحكومي، مرجحا مصلحته الشخصية على مصلحة شعبه وناخبية، ومن جهة أخرى التفافًا على المجتمع الدولي ليظهر أمامهم بمظهر مدعي السلام وأن لا شريك فلسطيني في المقابل . فبغض النظر عن تكتيكات ومناورات نتنياهو التي مارسها في الأيام القليلة الماضية عندما بادر عمدًا إلى خلط الأوراق ورفض إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين القدامى القابعين في غياهب السجون منذ ما قبل اتفاقية أوسلو حيث أن إطلاقهم كان لزامًا مترتبًا على الحكومة الإسرائيلية تنفيذها مقابل عدم توجه الفلسطينيين إلى المفاوضات، فكان هذا الرفض بداية إلى وضع العصي في دواليب المفاوضات وجر الفلسطينيين إلى مربع ردات الفعل وللأسف الشديد فإن الموقف الأمريكي أتى متماهيا لما يخطط له نتنياهو منذ البداية ألا وهو إفشال المفاوضات والتفاوض من أجل التفاوض وكسب الوقت لحسم الأمور والمضي قدما في فرض الوقائع عل الأرض.
في واقع الحال فإن حالة العجز والتراخي بل والتقهقر التي قابلت فيها الادارة الامريكية ووزير خارجيتها كيري تصرفات وخروقات نتنياهو هي التي دفعت القيادة الفلسطينية إلى التقدم للانضمام لخمس عشرة اتفاقية وميثاق دولي وهو حق مشروع لدولة فلسطين لا تُقبل فيه المساومة كما أن الموقف الإسرائيلي فرض على الفلسطينيين التفكير مليا بجدوى إستراتيجية التفاوض مع هكذا حكومة إسرائيلية سيما وأن عشرون عامًا من عمر المفاوضات مضت ولم يأخذ منها الفلسطينيين إلا الاستيطان والتهويد وابتلاع الاراضي وفرض الوقائع على الأرض.
وفي هذا السياق فإنه من الضروري الإشارة إلى أن مؤتمر مدريد عقد بعد حرب الخليج الأولى التي قادتها أمريكا والدول الغربية وشاركت فيها بعض الدول العربية حيث ارتأت الدول الغريبة بعد انتهاء الحرب أن الأوان قد حان لحل النزاع العربي الإسرائيلي. وبدأ وزير الخارجية الأميركي آنذاك جيمس بيكر جولاته المكوكية لإجراء الترتيبات لعقد مؤتمر مدريد وكعادتها قامت حكومة إسرائيل برئاسة اسحق شامير آنذاك باختلاق الذريعة تلو الذريعة لمنع انعقاد المؤتمر ووضع شروط مجحفة بحق الفلسطينيين وحين بلغت هذه التسويفات ذروتها أعلن وزير الخارجية الأميركي في مؤتمر صحفي عن رقم هاتف البيت الأبيض ليتصل به الجانب الإسرائيلي إن رغب في السلام. وعليه وجد شامير نفسه مرغماً على حضور مؤتمر مدريد ولكن بعد أن قام بابتزاز الجانب الأمريكي بالحصول على ضمانات قروض بمبلغ يقارب 10 بليون دولار لتمكين إسرائيل من استيعاب المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي.
ونقل عن اسحق شامير قوله لاحقاً بأنه كان يخطط لإطالة زمن المفاوضات عشر سنوات دون التوصل إلى أي نتيجة تذكر وبالفعل لم تحرز المفاوضات الرسمية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني في واشنطن أي تقدم غير أن القناة السرية في أوسلو تمكنت من تحقيق اتفاقية إعلان المبادئ والاتفاقية المرحلية المعروفة باتفاقية أوسلو.
إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبإلحاح، وبعض مضي أكثر من عشرين عاما من المفاوضات غير المجدية، هل أصبح لزامًا على الفلسطينيين وضع استراتيجية جديدة للتفاوض والتحرك سياسيا خلال الفترة المقبلة؟ الإجابة بديهية ومعروفة للجميع وهي نعم. ولكن لن يتم لنا هذا كفلسطينيين بدون مراجعاتٍ نقدية وبناءة لما اثمرت اليه كافة الجهود السابقة وتحديدًا جهود الإدارة الأمريكية الحالية وعرابها المثابر جون كيري.
فإذا عدنا الى ما قبل انطلاق الجولة الحالية من المفاضات في الحادي والثلاثين من شهر تموز من العام الماضي دأب وزير الخارجية الامريكية وبدعم من إدارته وبالتنسيق الحثيث مع مثل الرباعية الدولية ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير على بلورة ما يسمى بتحفيزات للاقتصاد الفلسطيني ولم يكن خافيا على أحد بان هذه المخططات لم تكن الا امتدادا لطموحات رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو للوصول الى ما يسمى بالسلام الاقتصادي مع الفلسطينين كبديل للحل السياسي، فحذر من حذر أنذاك وإقتنع كيري بعدم جدوى هذا المخطط بعيدا عن مسار سياسي واضح وبدات الجولة الحالية من المفاوضات ووصلنا ما وصلنا اليه الان.
ولو تنبهنا جيدا الى الوضع الذي نشهده حاليا في ظل تداعي العملية السلمية فالولايات المتحدة الامريكية تحاول إنقاذ المفاوضات ففي البداية كان الحديث عن اتفاق سلام نهائي تلاه تراجع في الامال وظهر الحديث عن اتفاق اطار واليوم أقصى ما تحلم به الادارة الامريكية هو الوصول الى اطار عام للمفاوضات وبمعنى آخر أصبح لنتنياهو الآن شركاء في المماطلة والتسويف!! وبناء على ما تقدم، على الفلسطينيين التنبه جيدا بأن كافة ما طرح الى الان ومنذ بداية جولة المفاوضات الحالية هو بعيد كل البعد عن الحل العادل للصراع القائم على قرارات الشرعية الدولية ومجلس الامن الدولي والأمم المتحدة وعلى رأسها قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران كأساس لهذا الحل
إن ما وصل اليه الفلسطينين اليوم ومع قرب انتهاء مهلة المفاوضات يحتاج الى وقفة فلسطينة جادة وحاسمة ليختاروا فيها إما سلام نتنياهو المدعوم امريكيا والقائم على فرض الوقائع على الارض وتبادل مجحف للاراضي بدل التكتلالات الاستيطانية التي استولى عليها المستوطنون مجانا وبدعم من حكوماتهم ومن مؤسسات يهودية وبذلك يكون لنا ما يشبه الدولة بلا سيادة وبلا تواصل جغرافي وبلا افق واضح للاستدامة سياسيا أو اقتصاديا أو جغرافيا.
اما الخيار الثاني فهو أن يختار الفلسطينيون الرجوع الى حقهم التاريخي وعدالة قضيتهم وشرعية مطالبهم وأن لا يقبلوا إلا قرارات الشرعية الدولية للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وتحديدا 242 و 338 و194 بديلا ليكون لنا دولة مستقلة حقيقية على كامل التراب الفلسطيني وعلى حدود الرابع من حزيران و أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
للأسف فإن الكثيرون يسوقون أكذوبة بات يصدقها العديد وهي ان دولة الاحتلال الاسرائيلية عمليا لا تستطيع اخلاء حوالي 700 الف مستوطن من مستوطنات الضفة الغربية والقدس الشرقية و بالتالي فان مبدأ تبادل الاراضي صار امرًا واقعا مفروضا على الفلسطينيين وهذا ما يريده نتنياهو وعرابي الاستيطان من حاشيته.
إن العكس هو الصحيح فإن لدولة إسرائيل القدرة العملية على استيعاب مستوطنيها الذين زرعتهم على أراضي الفلسطينيين الخاصة وإخلاء مستوطناتها غير الشرعية والمُمتدة كالسرطان في كافة أرجاء الضفة الغربية والقدس الشرقية فمن الناحية المادية والعملية تستطيع إسرائيل استيعابهم داخل الخط الأخضر حيث توجد المساحات الشاسعة التي تستطيع استيعاب عدد المباني التي تستوعب هؤلاء المستوطنين فقد كانت إسرائيل تستوعب سنوياً أكثر من 3000 ألف مهاجر من الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات. ومن جهة أخرى على الفلسطييين ان يستثمروا حالة الفوضى الخلاقة التي فرضها نتنياهو وأن يضعوا خطوطا حمراء لن يرضوا عنها بديلا للوصول الى حل عادل وشامل للصراع مع الاسرائيليين وهي في جوهرها 6023 كيلومتر مربع من الاراضي و 1388 كلم من المياه الإقليمية و 362 كلم مربع كامل مساحة قطاع غزة)، ناهيك عن ذلك فللفلسطينيين الحق الكامل في مياه نهر الأردن وشواطئ البحر الميت ومياهه الاقليمية بمساحة 194 كلم مربع وشواطى البحر الابيض المتوسط الممتد مقابل قطاع غزة بمساحة 1388 كلم مربع)، فأي دولة فلسطينية خلافا لهذه المعطيات لن تكون سوى إدارة لمعازل و كانتونات ودويلة صغيرة منقوصة السيادة ويتنقل قادة الجيش الإسرائيلي في شوارعها بحريتهم فالفلسطينيون وبعد كل ما بذلوه لن يقبلوا بموظف في وزارة الدفاع الاسرائيلية أورئيس الادارة المدنية سيدًا لهم ولدولتهم الوليدة.
لم يشهد التاريخ عملية تفاوضية امتدت 23 سنة دون تحقيق أي اختراق حقيقي وأصبحت المفاوضات بحد ذاتها هي الهدف وليس السلام الحقيقي وإذا ما نظرنا إلى تجربة الدول الأوروبية التي خاضت حربين عالميتين فإنها استطاعت التوصل إلى سلام فيما بينها وانجاز أكبر وحدة اقتصادية في العالم ويعود ذلك بالأساس إلى نجاح مؤسسة التعاون والأمن في أوروبا التي وضعت خطاً أحمر على موضوع التفاوض على الحدود واعتمدت الحدود المعترف بها دولياً كأساس للمفاوضات رغم وجود العديد من النزاعات الحدودية بين الدول الأوروبية.
ومن هذه المنطلق فإن الجانب الفلسطيني مطالب بالتمسك بحدود 4/6/67 كأساس ومرجعية للسلام وعلى الدول العربية والأجنبية إسناد ودعم هذا الموقف ولذلك فإن وضع موضوع الحدود كأحد قضايا الحل الدائم لم تكن موفقة وكذلك فإن تعديل المبادرة العربية لتتضمن موضوع تبادل الأراضي لم تكن كذلك خطوة صائبة واتضح هذا بشكل واضح خلال الشهور التسعة الماضية حيث أصبحت إسرائيل تتحدث عن أن مسار جدار الفصل العنصري هو حدود الدولة الفلسطينية المقبلة وتبعه ذلك إدخال مفهوم الكتل الاستيطانية لضمها لإسرائيل وفي حين كان الحديث في كامب ديفيد وطابا عن 3 كتل استيطانية أصبح نتنياهو يطالب بعشرة تكتلات استيطانية كبيرة كما أن إسرائيل ترفض فكرة تبادل الأراضي وتطالب إما باستئجار الأراضي التي ترغب في الاحتفاظ بها أو شرائها الأمر الذي سيحول الدولة الفلسطينية العتيدة إلى دولة غير قابلة للحياة. فهل سيشهد الأسبوعان القادمان انتفاضة تفاوضية أم سيتمكن العراب الأمريكي من أعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى وإيهام العالم أجمع بتحقيق اختراق ليعود مسلسل طحن المياه التفاوضي.
اعداد: معهد الابحاث التطبيقية – القدس
(أريج)