تشهد منطقة عش غراب في مدينة بيت ساحور تصعيدا خطيرا من قبل سلطات الاحتلال والمستوطنين، حيث تقوم جماعات المستوطنين، وتحت إشراف ما يطلق عليه “بمجلس إقليمي جوش عتصيون بتنفيذ عمليات تجريف واسعة للأراضي في المنطقة تمهيدا لإقامة بؤرة استيطانية إسرائيلية جديدة. ويعد هذا الإجراء جزءا من السياسة الإسرائيلية الممنهجة لتهويد الأراضي الفلسطينية والسيطرة عليها واقتناص حق الفلسطينيين في البناء والتوسع فيما تبقى من الأراضي الفلسطينية بعد أن سيطرة سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مساحات شاسعة بفعل بناء المستوطنات الإسرائيلية وشق الطرق الالتفافية وبناء جدار العزل العنصري وغيرها من المنشأت الاستيطانية.
وتجدر الإشارة إلى أن منطقة عش غراب كانت قبل عام 1967 موقعا عسكريا للجيش الأردني، ضمن الأراضي الفلسطينية التي كانت تحت السيادة الأردنية، وكانت القوانين الأردنية سارية فيها. وعقب احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في العام 1967، أصبحت هذه الأراضي تصنّف على أنها أراض محتلة بموجب القانون الدولي[1]، حيث حولت إسرائيل المنطقة إلى نقطة عسكرية خاصة بها، مستوليا بذلك على أراض فلسطينية محتلة. اذ أن القانون الدولي يعتبر إسرائيل دولة محتلة بالنسبة للأراضي الفلسطينية التي استولت عليها في حرب عام 1967، لأن هذه الأراضي كانت تخضع لدول ذات سيادة قبل الاحتلال الاسرائيلي، ولم تمنح إسرائيل حقا قانونيا في التملك أو السيطرة على الاراضي. كما ان اتفاقية السلام الموقعة لاحقا مع الأردن (في العام 1994) لم تمنح أي حق ملكية لدولة الاحتلال الإسرائيلي على هذه الأراضي، فقط نظمت العلاقات بين البلدين بما يخص الحدود، المياه، وحركة السكان.
إن هذا الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لا يُعد مجرد خرق للقانون الدولي فحسب، بل هو خطوة تهدف إلى تقليص المساحات المتاحة للفلسطينيين للبناء والتوسع، خاصة في مدينة بيت ساحور، حيث تعتبر منطقة عش غراب المنطقة الوحيدة المتبقية لأهالي مدينة بيت ساحور من أجل البناء والتوسع السكاني، إذ أن الاستيطان وبناء الجدار الإسرائيلي قلص المساحات المتاحة بشكل كبير (من 7063 دونما وهي الحدود الإدارية للمدينة الى 5853 دونما, خسارة نسبتها 17% من المساحة الاجمالية للحدود الإدارية لمدينة بيت ساحور)، مما دفع الفلسطينيين إلى مواجهة أزمة حقيقية في التوسع العمراني وأدى في كثير من الحالات إلى هجرة السكان بسبب انعدام الأراضي الصالحة للبناء.
هذا بالإضافة الى أن إقامة البؤر الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتسم بخصوصية مقلقة جدا، فهي لا تحتاج إلى إجراءات رسمية معقدة لإقامتها أو البناء عليها، على عكس المستوطنات الإسرائيلية التي تتطلب موافقات رسمية. وقد شهدت السنوات الأخيرة إنشاء ما يزيد عن 50 بؤرة استيطانية جديدة[2] في الضفة الغربية المحتلة، والتي من الممكن أن يتحول عددا منها مستقبلاً إلى مستوطنات دائمة بسبب ضغوطات جماعات المستوطنين اليمينية المتطرفة، بما يهدد فكرة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتصلة جغرافيا. ان هذا التوسع الاستيطاني السريع يعكس استراتيجية إسرائيلية ممنهجة لتقسيم الأراضي الفلسطينية وتقويض فرص الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة. فيما يلي نبذة عن التسلسل الزمني للسيطرة على موقع عش غراب:
معسكر عسكري أردني حتى عام 1967
تقع منطقة عش غراب, بالإنكليزية ((the nest of the crow، على بعد حوالي 4 كم شرق مدينة بيت ساحور, عن مركز المدينة. وخلال فترة الحكم الأردني للضفة الغربية (1948-1967)، تم إنشاء قاعدة عسكرية للجيش الأردني تبلغ مساحتها حوالي 20 دونما على تلة جبل تطل على الطريق التاريخي الذي يربط بيت ساحور بالقدس (جنوب شرق). انظر الخريطة 1.
الخريطة 1: صورة جوية لبيت ساحور وعش غراب عام 1970
الاستيلاء الإسرائيلي على المنطقة وإنشاء القاعدة العسكرية “شديما“
عقب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في العام 1967، استولى جيش الاحتلال الإسرائيلي على القاعدة العسكرية الأردنية في منطقة عش غراب، كما هو الحال مع جميع القواعد/المواقع العسكرية الأردنية الأخرى في الضفة الغربية المحتلة. وفي الفترة الواقعة ما بين 1971 و1983، أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي عدة أوامر عسكرية (غير قانونية) لمصادرة الأراضي في المناطق المحيطة بالقاعدة الأصلية (التي كانت ابان الحكم الأردني)، لتصل مساحة الأراضي المصادرة إلى حوالي 375 دونمًا، وهي مساحة تكاد تكون 20 ضعف مساحة القاعدة الأردنية انذاك. وتم إصدار هذه الأوامر بهدف توسيع مناطق التدريب العسكرية التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في موقع القاعدة العسكرية الاصلية، ولاحقا اطلق عليها اسم “شديما”، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية دائمة على أراضي مدينة بيت ساحور. انظر الخريطة 2.
تفكيك القاعدة العسكرية الإسرائيلية “شديما” – في العام 2006
مع انتهاء سلطات الاحتلال الاسرائيلي من بناء جدار الفصل العنصري حول مدينة القدس, وخاصة في منطقة شرق وشمال مدينة بيت لحم (باستثناء المقطع الغربي- مقطع غوش عتصيون), واحكام اغلاق مداخل المدينة (شرقا وشمالا بالتحديد), والتي شملت أيضا إقامة المعابر الحدودية والحواجز الدائمة حول مدينة القدس. تم الانسحاب من القاعدة العسكرية الإسرائيلية في المنطقة الا انها بقيت تحت السيطرة الإسرائيلية ولم يسمح للفلسطينيين بالدخول اليها أو الاقتراب منها أو استغلالها لأي غرض كان.
طريق “ليبرمان” الالتفافي – 2008
في العام 2002، بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بشق طريق التفافي إسرائيلي جديد يبلغ طوله أكثر من 10 كم، بهدف ربط مستوطنة أبو غنيم (هارحوما), والتي كانت قد أقيمت على أراضي كل من بيت لحم و بيت ساحور وصور باهر وأم طوبا، بعد أن كانت سلطات الاحتلال قد ضمت الأراضي التي أقيمت عليها هذه المستوطنة ومستوطنات اخرى قبلها للحدود الجديدة لبلدية القدس التي وسعتها, بشكل غير قانوني واحادي الجانب, من 6.5 كم² الى 71 كم² وضمت أراضي من محافظة بيت لحم، مع المستوطنات الإسرائيلية الواقعة شرق وغرب بيت لحم ( أو على وجه التخصيص, مستوطنات غوش عتصيون شرق و غوش عتصيون غرب). واكتمل الطريق الالتفافي الإسرائيلي الجديد في العام 2008 بعد أن التهم مساحات شاسعة من الاراضي الفلسطينية وتسبب في قطع عشرات الأشجار المثمرة، وأصبح الطريق الالتفافي الرئيسي للتنقل لألاف المستوطنين الإسرائيليين القاطنين في مستوطنات شرق وغرب مدينة بيت لحم. وغالبًا ما يُشار إلى هذا الطريق الالتفافي الإسرائيلي باسم “طريق ليبرمان“، نسبة إلى السياسي الإسرائيلي المعارض, أفيغدور ليبرمان، الذي يقطن في مستوطنة نيكوديم والذي كان قد شغل عدة مناصب هامة في الحكومة الإسرائيلي, منها نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي في العام 2006 ووزيرا للتخطيط الاستراتيجي في ذات الوقت[3].
وما ان تم تدشين الطريق الالتفافي الجديد حتى بدأ المستوطنون يُبدون اهتمامًا كبيرا بالموقع المهجور «عش غراب والمعروف إسرائيليا باسم “شديما”، لأنه يقع مباشرة فوق مسار الطريق الالتفافي. وتجدر الإشارة الى أن إعادة احتلال موقع عش غراب يتوافق تمامًا والسياسة الاستيطانية الإسرائيلية خاصة فيما يخص بناء البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة. وكانت من بين أكثر الجهات/أو المجموعات التي دعت وبشكل كبير للضغط على حكومة الاحتلال الإسرائيلي من أجل إعادة احتلال موقع عش غراب مجموعة تُعرف باسم «نساء بالأخضر»، والمتمركزة أساسًا وتتخذ مقرا لها في المستوطنات الإسرائيلية جنوب بيت لحم.
وعقب إخلاء القاعدة العسكرية الإسرائيلية من موقع عش غراب في العام 2006، كان من المفترض أن تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإلغاء أوامر المصادرة الصادرة بحق المنطقة وإعادة الأرض إلى مالكيها الأصليين من مدينة بيت ساحور، إلا أن ذلك لم يحدث أبدًا. فبعد عدة سنوات من اخلاء الموقع، بدأت بلدية بيت ساحور بالتخطيط لإنشاء مستشفى في موقع القاعدة العسكرية المهجورة. وبالتوازي مع هذه المبادرة، موَّلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) إنشاء حديقة ترفيهية جديدة على المنحدرات الشمالية لتلة عش غراب، على مساحة صودرت من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في العام 1971 من أجل توسعة موقع “عش غراب” العسكري. وكانت الإدارة المدنية الإسرائيلية قد وزعت لاحقا 5 أوامر هدم ضد 5 منشآت مختلفة في الحديقة، لكنها لم تُنفَّذ قط على أرض الواقع.
عودة الوجود العسكري الإسرائيلي إلى موقع عش غراب – 2010
مع الضغط المستمر لجماعات المستوطنين لإعادة احتلال موقع عش غراب, قام جيش الاحتلال الإسرائيلي مع بداية العام 2010 بإقامة برج مراقبة دائم في الموقع, وأعيد تمركز قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في الموقع بعد غياب دام حوالي أربع أعوام. وادعى جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك ان هذا القرار يستند إلى اعتبارات أمنية وليس نتيجة ضغط جماعات المستوطنين.
المستوطنون يقيمون «مركزًا ثقافيًا» في موقع عش غراب – 2013
وفي العام 2013، وبعد عدة سنوات من إقامة البرج العسكري في موقع عش غراب, أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي تموضعه في الموقع بشكل دائم حيث قام المستوطنون بإعادة ترميم المكان (المباني المهجورة القديمة في الموقع) بهدف تحويل المكان إلى ما اطلق عليه ب “مركز ثقافي”. وقد تولّى المستوطنون تمويل أعمال الترميم، التي نُفذت بتنسيق كامل مع جيش الاحتلال الإسرائيلي المتواجد في المكان وبعكس الادعاءات أن الموقع تم إعادة احتلاله “لأغراض امنية ” وليس بسبب ضغط جماعات المستوطنين.
[1] قوانين لاهاي 1907
المادة 42 و المادة 43.
[2] https://peacenow.org.il/en/at-least-seven-outposts-established-in-palestinian-controlled-area-b
[3] Avigdor Lieberman
https://en.wikipedia.org/wiki/Avigdor_Lieberman
اعداد:













