طلع علينا الاحتلال الإسرائيلي في الاسبوع الاول من كانون الأول 2005 بجريمة أخرى، عندما شرعت جرافاته وعماله وجنوده بتدمير مئات القبور وإهانة كرامة الموتى، بحجة إقامة ما يسمى ‘ مركز الكرامة الإنساني’ – متحف التسامح في مدينة القدس – على ما تبقى من ارض مقبرة ‘ مأمن الله’. جريمة بحق الأموات وكرامتهم، ومن لا يحترم قدسية الحياة للأحياء وكرامتهم ويقتل منهم الآلاف من أطفال ونساء وشيوخ أبرياء، فمن الطبيعي ان لا يحترم كرامة الموتى. ومتى كان التسامح يُبنى على استفزاز مشاعر الآخرين بالاعتداء على مقدساتهم ورموزهم الدينية وعلى مراقد أمواتهم؟!.
( صورة رقم1 و 2: صور لبقايا مقبرة مامن الله قبل الحفريات الاخيرة)
صورة خاصة بمركز ابحاث الاراضي
مقبرة ‘ مأمن الله’ موقعاً ومساحة:
تقع مقبرة ‘ مأمن الله’ والتي يسميها البعض ‘ ماميلا ‘ غربي مدينة القدس القديمة على بعد 2 كم من باب الخليل، وهي اكبر مقبرة إسلامية في القدس وتقدر مساحتها بـ 200 دونماً ( بينما سجلت المقبرة في دائرة الأراضي – الطابو – الفلسطينية بتاريخ 22/3/1938 بمساحة 134,560 دونماً، واستصدر بها وثيقة تسجيل أراضي – كوشان طابو ضمن أراضي الوقف الإسلامي دون احتساب الجزء الباقي من ارض وقفها التي أقيم عليها بناية الأوقاف في بداية العشرينات ومقبرة الجبالية التي يفصلها الشارع عن المقبرة).
( ادخل صورة رقم 3: موقع مقبرة مأمن الله في القدس )
الصورة من اعداد مركز ابحاث الاراضي
مقبرة ‘ مأمن الله’ في عمق التاريخ :
ساير تاريخها تاريخ المدينة، ويذكرها المؤرخ الفلسطيني عارف العارف صاحب ‘ المفصل في تاريخ القدس’ انها أقدم مقابر القدس عهداً وأوسعها حجماً وأكثرها شهرة، وترى دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس ان المقبرة اقيمت قبل 1400 عام، ففيها مسح سليمان ملكاً عام (1015 ق.م)، وفي هذا المكان عسكر سنحاريب ملك الاشوريين عندما دخل القدس عام ( 710 ق.م)، وفيها ألقى الفرس بجثث القتلى من سكان المدينة عندما احتلوها عام ( 614 ق.م)، وفيها عدد كبير من قبور الصحابة والمجاهدين الذين استشهدوا او توفوا أثناء الفتح الإسلامي عام 636 م، وفي المكان ذاته عسكر صلاح الدين الأيوبي يوم جاء ليستعيد القدس من الصليبيين عام 1087 م.
ويرجح المؤرخون أن تاريخ الدفن الإسلامي في المقبرة يعود إلى ما قبل الصليبيين وان الصليبيين عندما احتلوا القدس قتلوا فيها 70,000 من الرجال والنساء والأطفال وانهم أمروا من تبقى من المسلمين في القدس بدفن الشهداء في مقبرة ‘ مأمن الله ‘ وقد وجدوا فيها حينذاك مقابر وأنفاق فوضعوا جماجم الشهداء فيها. وعلى العموم فان المقبرة تحوي رفاة أكثر من 70,000 صحابي وعالم وشهيد منهم: الأمير عيسى بن محمد العطاري الشافعي وهو احد كبار مستشاري السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي توفي عام 585 هجري ، والشيخ شهاب الدين أبو العباس عالم فقه ونحوي توفي عام 728 هجري، والعالم احمد ابن حامد الأنصاري المقدسي الذي عرض عليه قضاء القدس، فأبى زاهداً وتوفي عام 854 هجري، والعالم قاضي القضاة شيخ الاسلام محمد بن جمال الدين الديري بن عيسى الحنفي من قضاء نابلس الذي سكن القدس لاكثر من 50 عاماً وصار من علمائها وفقهائها ومدرسيها وتوفي عام 827 هجري .
احيطت المقبرة في أواخر العهد العثماني عام 1847 م بسور ارتفاعه مترين، واستمر المسلمون في دفن موتاهم فيها حتى عام 1948 رغم أن المجلس الإسلامي الأعلى اصدر حظراً على دفن الموتى فيها عام 1929 بسبب اكتظاظها واقتراب العمران منها. ودرج المجلس الإسلامي الأعلى على العناية بها وإزالة الضرر عنها وقلع الاعشاب منها وزرع الأشجار على جانبي الطرق داخل المقبرة.
( صورة رقم 4: احد المباني السكنية القديمة بين قبور مامن الله )
صورة خاصة بمركز ابحاث الاراضي
وتعرضت المقبرة في بداية الثلاثينات لانتهاكات متكررة، وفي عام 1933 وضع مخطط لمقبرة ‘ مأمن الله’ وهو في جوهره يقتطع منها جزء للبناء السكني وآخر للتجاري والثالث يكون حديقة عامة، ورابع يبقى مقبرة، ونفذ الجزء الأكبر من هذا المخطط في الستينات وما بعدها.
نكبة … احتلال … وطمس ..وإزالة للمعالم
احتلت المنظمات الصهيونية عام 1948 الجزء الغربي من القدس فسقطت من ضمنها مقبرة الشهداء والعالمين مقبرة ‘ مأمن الله’، وفي نفس العام اعلن قيام دولة إسرائيل التي بدورها اقرت قانوناً بموجبه تعتبر جميع الأراضي الوقفية الإسلامية وما فيها من مقابر ومقامات ومساجد – بعد الحرب أي النكبة – باراضي تدعى ‘ أملاك الغائبين’ ويديرها ‘ حارس أملاك الغائبين’ وله حق التصرف بها، وبذلك أصبحت مقبرة ‘ مأمن الله’ ضمن ‘ أملاك حارس أملاك الغائبين’ لدى ‘ دائرة أراضي إسرائيل ‘ ، ومنذ ذلك الحين دأبت إسرائيل على تغيير معالم المقبرة وطمس كل اثر فيها حتى انه لم يتبق فيها سوى اقل من 5% من القبور، وقدرت المساحة المتبقية فيها بحوالي 8% من المساحة الأصلية – أي حوالي 19 دونماً -.
في عام 1967 حولت المؤسسة الإسرائيلية جزء كبير من المقبرة إلى حديقة عامة دعيت ‘ حديقة الاستقلال’ حيث جرفت أراضي المقبرة ونبشت القبور وهياكل الموتى فيها، وشقت الطرق في أجزاء منها، كما بُني على أجزاء أخرى منها.
وفي عام 1985 أقامت وزارة المواصلات موقفاً للسيارات على قسم كبير منها، وفي 15/1/2000 قامت شركة الكهرباء الإسرائيلية بحفريات في المقبرة اعترضت عليها دائرة الأوقاف الإسلامية العامة في حينه ( راجع وثائق دائرة الأوقاف الإسلامية العامة منذ 1933 وحتى اليوم)، ويستخدم جزء من المقبرة حتى اليوم كمقر رئيسي لوزارة التجارة والصناعة الإسرائيلية.
وفي عام 1992 نقلت مسؤولية مقبرة ‘ مأمن الله’ من ‘ حارس أملاك الغائبين’ إلى سيطرة بلدية القدس -(المصدر: صحيفة هآرتس تقرير يوناثان ليس)- التي برع رؤساؤها من تيدى كوليك وايهود اولمرت وحتى اليوم في إزالة معالم المقبرة كما يعملون على إزالة معالم المدينة المقدسة بكاملها.
وفي شهر 9/2002 أعلنت المؤسسة الإسرائيلية عن نيتها إقامة مبنى – مجمع – للمحاكم الإسرائيلية في منطقة المقبرة سعياً منها لمسح المقبرة نهائياً.
واليوم في الاسبوع الاول من شهر كانون اول 2005 عاود الاحتلال الاعتداء على حرمة الموتى وقبورهم في مقبرة ‘ مأمن الله’، فقامت الجرافات الإسرائيلية وأكثر من 140 عاملاً بتجريف ارض المقبرة ونبش القبور وإهانة كرامة الموتى تمهيداً لإقامة مشروع امريكي إسرائيلي بواسطة شركتين هما: ‘ سيمون فيزنطال سنتر’ وشركة أخرى رمز لها باحرف SWC على مساحة 21 دونماً، يضم بنائين كبيرين احدهما باسم ‘ الكرامة الإنسانية’ والثانية باسم ‘ متحف التسامح’ بكلفة 200 مليون دولار بتمويل مركز سيمون فيزنطال في لوس انجلوس بالولايات المتحدة. وسبق في عام 1994 ان وضُع حجر الاساس لمتحف التسامح في حفل كبير حضره نائب رئيس الوزراء –حالياً- ايهود اولمرت وحاكم كاليفورنيا ارنولد شوارزينغر.
( ادخل صورة رقم 5)
صور خاصة بصحيفة الحياة الجديدة
بدأت الشركات المتعهدة بالانشاء العمل برفع السور المحيط بالمقبرة من مترين إلى ارتفاع أربعة امتار حتى لا يرى احد الجرائم التي ترتكب بحق الموتى، ولم تكتف بهذا فقد عمدت إلى نصب خيمتين كبيرتين لستر ما تقوم به من انتهاكات واعتداءات على رفات وهياكل الموتى تحت حراسة العشرات من جنود الاحتلال الإسرائيلي المنتشرين في محيط المقبرة واثناء العمل بها، ورغم كل ذلك فقد افاد بعض العمال – تقرير يوناثان لصحيفة هآرتس 8/2/2006- بأنه يعمل في الموقع حوالي 150 شاباً وشابة يهودية، وانهم يقومون بحفر القبور تحت الخيام، ويتضح من شهادات أخرى – منها شهادات عيان لاعضاء عرب في الكنيست واعلاميين – انه كشف في موقع إقامة المتحف وحتى الآن وتحت انظار سلطة الآثار عن أكثر من 150 هيكلاً عظمياً ‘ وقال احد العمال ‘ عثرنا يوم الأحد على بداية هيكل عظمي وهذا لا يعتبر أمر غير عادي، إذ يوجد في كل موقع هيكلاً’.
( ادخل صورة رقم 6: رجل امن اسرائيلي يتصدى للمصور )
صورة خاصة بمركز ابحاث الاراضي
وجراء الضجة الاعلامية ‘ فقد احاط المسؤولون الموقع بآلات تصوير أمنية تكشف كل محاولة تسلل إليه ‘ وفي أعقاب الاهتمام الذي ابدته وسائل الاعلام وجهت لهم – للعمال – تعليمات بتغطية المنطقة بقطع من البلاستيك، وقال احد العمال: ‘ قالوا لنا بأنه إذا عرف عن وجود هياكل هنا فسيتم وقف المشروع ‘.
وفي شهر كانون الثاني 2006 أعلنت الصحف الإسرائيلية عن نية الحكومة الإسرائيلية افتتاح مقر ما يسمى ‘ مركز الكرامة الإنسانية ‘ – متحف التسامح – في مدينة القدس على ما تبقى من مقبرة ‘ مأمن الله’ الأمر الذي يؤكد تصميم إسرائيل على إنهاء وجود مقبرة ‘ مأمن الله ‘. وتماطل المحكمة العليا الإسرائيلية في الرد على التماس ‘ مؤسسة الأقصى’ باسم محاميها السيد احمد سليمان ضد مجموعة المتاحف المسماة SWC، ومركز سيمون فيزنطال في لوس انجلوس وبلدية القدس ودائرة أراضي إسرائيل. وطالب الالتماس باستصدار أمر مستعجل لايقاف العمل والحفريات على ارض مقبرة ‘ مأمن الله’ الإسلامية وعدم اخراج أي مواد خارج حدود المقبرة. وقُدم الالتماس مرفقاً بكافة الوثائق والصور، وتعني مماطلة المحكمة في الرد على الالتماس مساهمة من المحكمة وتواطئاً على الجريمة التي تجري في الموقع ولتعطي المنفذين فرصة اخفاء هذه الجريمة باخراج عظام ورفات الموتى دون ان يراهم احد.
( ادخل صورة رقم 7: احد القبور التي تم نبشها في المقبرة )
صورة خاصة بمركز ابحاث الاراضي
وفي 2/2/2006 تقدم ذوو بعض الموتى المواطنون : محمد خير الدين الدجاني، محمد زكي نسيبة، محمد حمدي بدر زين، بالتماس إلى المحكمة الشرعية الإسلامية في القدس الغربية ضد كافة الأعمال والانتهاكات في مقبرة ‘ مأمن الله’، كما وتقدمت مؤسسة كرامة لحقوق الإنسان بواسطة مديرها ضرغام سيف بالتماس الى المحكمة العليا الاسرائيلية في 5/2/2006 لكن الجهات المعنية رفضت الانصياع له، وتأجل النظر في القضية الى يوم 19/2/2006.
في 8/2/2006 استأنفت الجهات المعنية العمل في ازالة القبور من ‘مأمن الله’ تمهيداً لبناء ‘ متحف التسامح’. وسبق ان طالبت الهيئات الاسلامية ومنها مفتي القدس وقاضي القضاة ومدير دائرة الاوقاف، بوقف العدوان على مقبرة ‘مأمن الله’ بكونها مقبرة اسلامية. واصدرت فتوى تحرم تدنيس المقابر والاعتداء على حرمتها وقدسيتها ونبش قبورها، كما حرمت على المسلمين العمل فيها وناشدت كافة الهيئات والمؤسسات المختصة وجمعيات حقوق الإنسان بالوقوف في وجه الهجمة ضد المقدسات وضد الاموات وبتنفيذ كافة القرارات الصادرة عن المحكمة الشرعية ذات الاختصاص في هذا المجال.
تسامح على هياكل المسملين
يدعي القائمون على المشروع انه مخصص جزئياً للترويج للتفاهم بين الديانات المختلفة والتسامح بينها، ‘ فأي تسامح يبدأ باستفزاز مشاعر ابناء الديانات الاخرى والاعتداء على مقدساتهم ورموزهم الدينية وعلى مراقد موتاهم’؟؟!!.
والجزء الآخر من المشروع يسمى ‘ مركز الكرامة الانسانية’ ، فهل بموت الإنسان تنتهي كرامته؟.
ان الاحتلال الاسرائيلي لا يحترم كرامة الإنسان الحي الذي عقوبة قتله لا تساوي احيانا مليما واحيانا اخرى شاقلا ان لم تقف عند تعبير (توبيخ) ، فكيف بمن يقتل الابرياء ويعتدي على حياتهم المقدسة ان يحترم كرامتهم وهم موتى ؟!!!.
ان الذهنية العنصرية المريضة للاحتلال الإسرائيلي التي تستبيح مقدسات وحرمات الغير هي ذاتها التي تطرق اليها المؤرخ الاسرائيلي ميرون بنفنستي- نائب رئيس بلدية القدس الاسبق- في مقالته المنشورة في صحيفة هآرس بتاريخ 9/9/2005:‘ كل هذا ولم نتطرق بعد لقبور الصلاح الشيوخ التي تحولت إلى قبور مقدسة لليهود مثل قبر’دان’ الذي حل محل ضريح الشيخ غريب أو قبر الست سكينة في طبريا الذي تحول بصورة عجيبة إلى قبر ‘راحيل’ زوجة الحاخام عكيفا. اقل من ’40’ مقبرة إسلامية بقيت من مجموع ‘150 ‘ كانت في القرى المهجورة وهي أيضا مهملة وفي دائرة الخطورة الدائمة والاعتداءات والمصادرات، بل القضية قضية مبدأ العقلية العنصرية التي قامت بكل ذلك والعقلية التي تعتدي بالحفر والتهديد بالهدم للمسجد الأقصى لا تتردد في هدم ونبش القبور في مقبرة مأمن الله’. ان هدم المقابر الاسلامية لم ينبع من ضغوط احتياجات التنمية والمصلحة العامة، وانما الهدف منه هي عملية تطهير عرقي للموتى لان وجود المقابر تلك دليل على ملكية الاقصى لهم ‘.
والمؤسسة الاسرائيلية ذاتها – بلدية القدس المحتلة – كانت الغت طريقا معبدا مضى عليه اكثر من 25 عاما يصل بين كنيسة الجسمانية الى الشرق من سور القدس القديمة ورأس العامود بحجة انه يمر بمقبرة يهودية، ولو وقف الامر عند هذا الحد فلا بأس، لكن المؤسسة ذاتها قامت فيما بعد بتجريف مقبرة باب الرحمة الاسلامية الملاصقة للسور الشرقي للقدس العتيقة بعمق متوسطه عشرة امتار لتوسيع طريق معبد ليكون طريقا التفافيا يستعمله المستعمرون اليهود للوصول الى البؤر الاستعمارية بباب المغاربة وقرية سلوان.
( صورة رقم 8: عامل حراسة اسرائيلي يدفع اثنين من المحتجين بعيدا عن مكان الحفريات )
صورة خاصة بمركز ابحاث الاراضي
ان مركز ابحاث الاراضي ينظر بخطورة بالغة للممارسات العنصرية الاسرئيلية ضد كل ما هو فلسطيني ويعتبر ان هذه السياسة تندرج في اطار سياسة التطهير العرقي لكل ما هو فلسطيني من بشر وشجر وحجر، وعليه يطالب مركز أبحاث الاراضي – جمعية الدراسات العربية في القدس بما يلي:
الاطراف السامية الموقعة على الاتفاقيات والمواثيق والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان احترام توقيعها والتزامها بالعمل على صون واحترام تلك الاتفاقيات وحمايتها من الانتهاكات والممارسات العنصرية بكافة اشكالها.
المجتمع الدولي بوضع حد للخروقات الصارخة التي تمارسها اسرائيل بحق المقدسات من مساجد ومقابر و آثار وغيرها، والاهانة لكرامة الانسان حياً وميتاً، والضغط على اسرائيل للتوقف فوراً عن تجريف مقبرة مأمن الله الاسلامية والتوقف عن نبش القبور فيها.