يُصادف في شهر أيلول الجاري ذكرى مرور عشرين عامًا على توقيع إتفاقية أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي أحيت الأمل في الوصول إلى حل أكثر النزاعات تعقيدا وعمرًا في الشرق الأوسط، حيث كانت البداية في العاصمة الإسبانية مدريد عام 1991 حين إتفق أطراف النزاع على الوصول إلى حل للصراع العربي الإاسرائيلي إستنادا إلى مبدأ "الأرض مقابل السلام" وذلك على أساس قراري الامم المتحدة 242 و 338. لاحقًا وفي الثالث عشر من أيلول من العام 1993 ، تم توقيع إتفاق إعلان المبادىء التاريخي بين منظمة التحرير وإسرائيل في حديقة البيت الابيض في العاصمة الأمريكية واشنطن. هذا وتنص المادة السادسة في الإتفاقية "على أن الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة واحدة ويتم الحفاظ على تواصلهما في الفترة الإنتقالية لحين الوصول إلى إتفاق سلام نهائي بين الجانبين" ، فقد قامت إسرائيل بعكس ما جاء بالإتفاقية تمامًا فقد عملت على ترسيخ فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة من جهة ومدينة القدس عن الضفة من جهة أخرى وبشكل ممنهج بالاضافة إلى نصب منظومة الحواجز الاسرائيلية التي حاصرت الفلسطيننين في مدنهم وقراهم وجعلتهم يعيشون في سجن كبير.
علاوة على ذلك ووفقا لإتفاقية أوسلو 2 للحكم الذاتي فقد تم تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق "أ" "ب" و "ج" يتخللها سيادة فلسطينية متفاوتة فالمناطق "أ" (مساحتها 17.7% منمساحة الضفة الغربية) خاضعة للسيطرة الفلسطينة الكاملة، أما مناطق "ب" (18.3% من مساحة الضفة) فيُسيطر الفلسطينيين على الشؤون المدنية فقط أما مناطق "ج" (61% من مساحة الضفة الغربية) فهي خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة. اليوم وبعد عشرين عاما منذ توقيع "إعلان المبادىء" لا ينفك طرفي الصراع في المضي قدمًا على نفس النهج أملا في الوصول إلى إتفاق سلام نهائي وشامل. انظر الخارطة
والجدير ذكره أنه وبحسب " إعلان المبادىء" فقد تم الإتفاق على فترة إنتقالية تدوم لخمس سنوات يتفق خلالها مُمثلى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على قضايا الحل النهائي كالقُدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والمياه حيث كان هذا السيناريو المنتظر إلى ان قامت إسرائيل ببناء جدار الفصل العنصري غير الشرعي الذي ضم وراءه عشرات الألاف من أراضي الفلسطينيين الخاصة.
أيضا ووفق نفس الإتفاق فإنه يحظر على الطرفين " الفلسطيني والإسرائيلي" القيام بأي خطوات من شأنها المساس أو التأثير على قضايا الحل النهائي، ولكن إسرائيل أبت إلا وأن تتنصل مجددًا وكالمعتاد من إلتزاماتها المُترتبة عليها في أي إتفاق فمضت قُدمًا في بناء وتوسيع المستوطنات والبؤر الإستيطانية حيث ضاعفت إسرائيل ومن خلال التوسع الاستيطاني رقعة الأراضي التي ضمتها بشكل غير شرعي إلى أن بلغت مساحة المستوطنات الإسرائيلية حاليًا (540 كلم مربع) أي ثمانية أضعاف ما كانت عليه عند توقيع إتفاق إعلان المبادىء قبل عشرين عامًا.
بعد عامين من توقيع إتفاق إعلان المبادىء عام 1993 وتحديدا في أيلول عام 1995 تم توقيع إتفاقية أوسلو 2 في العاصمة الأمريكية واشنطن والتي أسست لمرحلة ما بعد إعلان المبادىء وهي مرحلة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة لحين الوصول إلى مفاوضات الحل النهائي والتي كان من المفترض أن تبدأ في شهر أيار من العام 1996 وتنتهي في نفس الشهر من العام1999 ولكن شيئا من ذلك لم يحصل بسبب عدم إاتزام الجانب الإسرائيلي .
إن اتفاقية أوسلو 2 تضمنت مسألة إعادة الإنتشار والتموضع لقوات جيش الإحتلال الإسرائيلي والتي كان من المفترض إكتمالها خلال 22 يوما، عشية الإنتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 1996 على أن تكتمل عمليات الإنتشار اللاحقة بعد إنعقاد المجلس التشريعي. خلال نفس الفترة ووفقًا للإتفاقية فإن صلاحيات ومسؤوليات الأراضي يتم نقلها تدريجيا لمناطق السيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عدا ما يتعلق بقضايا الحل النهائي والتي يتم التفاوض عليها لاحقا بحيث يصبح ما يقارب ال 95% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة خاضعة للسيادة الفلسطينية خلال ثمانية عشر شهرابعد إنعقاد المجلس التشريعي الفلسطينية وهو ما لم تلتزم به إسرائيل أيضا وكالمعتاد.
مع ذلك، وعلى الأرض لم تلتزم إسرائيل وحكوماتها المُتعاقبة بأي من الاتفاقين (إعلان المبادىء واتفاقية أوسلو 2 للحكم الذاتي) وإستمرت في المراوغة والتهرب من الاتفاقات الموقعة وإعادة التفاوض على أمور تم حسمها في إتفاقة الحكم الذاتي حيث وبحلول شهر أذار من العام 2000 وصلت نسبة الأراضي الخاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة في الضفة والقطاع إلى 18.2% فقط من نسبة ال 95% التي نص عليها الإتفاق الأمر الذي يوضح جليا عدم جدية دولة الإحتلال الإسرائيلي في الإلتزام بالاتفاقات بل ونسفها لتصبح أثرا بعد عين.
ومنذ ذلك الحين وبحلول العام 2005 لم تقم إسرائيل بتسليم أي من الأراضي إلى الجانب الفلسطيني وبقي الحال كما هو عليه بإستثناء تسليم 80% من مساحة قطاع غزة إلى الجانب الفلسطيني ضمن ما عُرف بخطة "إعادة الإنتشارفي قطاع غزة" والتي نفذها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق أرئيل شارون بشكل أحادى الجانب وبدون أي تنسيق مع الجانب الفلسطيني بحيث أضحى القطاع بعدها محاصرا برًا وبحرًا وجوًا بالرغم من إخلاء المُستوطنات الاسرائيلية التي كانت موجودة هناك.
إن عدم الإلتزام الإسرائيلي بالاتفاقات المُوقعة والعمل خلافا لها على أرض الواقع أدى إلى الحيلولة دون الوصول إلى تحقيق إستدامة وتنمية حقيقية في الأراضي الفلسطينية ، حيث واجه المسؤولون الفلسطينيون مُعضلة حقيقية في الاستثمار في القطاع الزراعي ووضع إستراتيجيات قابة للتحقيق لهذا القطاع الهام نتيجة لحالة عدم اليقين لما ستؤول إليه الأمور خلال الاتفاقيات المستقبلية مع الجانب الاسرائيلي خاصة تفاهمات الحل النهائي. علاوة على ذلك فإن المُعيقات الإسرائيلية للإقتصاد الفلسطيني الناشىء قد ظهرت جليًا بعد التوقيع على إتفاق أوسلو بالرغم من سقف الطموحات والتفائل لدى الجانب الفلسطيني بعد التوقيع الاتفاق في العام 1993.
يبدو أن إسرائيل قد إعتادت على الحلول المرحلية والخطوات أحادية الجانب فقد تقدم على الإنسحاب من عدة مناطق فلسطينية تتمتع بكثافة سكانية عالية لتخلق معازل وكانتونات يتمتع الفلسطينيين فيها بحكم محدود وبدون أي سيطرة على المعابر أو على المصادر الطبيعية. بالنسبة للفلسطينيين ، فإن تفاهمات وإتفاقات مدريد وأوسلو للسلام قد أعطتهم جرعة تفائل عالية لحلم إقامة الدولة وإنهاء الاحتلال وجلاؤه عن أراضيهم ضمن الجدول الزمني المتفق عليه لكن وكالمعتاد الالتفاف والتسويف الاسرائيلي كان لهم ولاحلامهم بالمرصاد بحيث أضحوا مُحبطين ومُتشائمين ويرون تحت ناظرهم توسع المستوطنات وتضخمها على أراضيهم ناهيك عن سياسة الإذلال التي تتبعها إسرائيل معهم وبشكل يومي نتيجة لتعمد إسرائيل البقاء في مناطق السيادة الفلسطينية وإنتهاكها. أيضا وللفلسطينين، فإن المُستوطنات وقُطعان المستوطنين لا تشكل فقط خرقًا وتدميرًا للاتفاقات المُوقعة بل إنها شكل من أشكال الاستيطان والاستيلاء على أراضيهم والاعتداء على ممتلكاتهم باستخدام القوة الجبرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي والذي يضمن إستدامة الاحتلال ومستوطناته غير الشرعية .
إن عملية الاستيلاء على الاراضي وتجزئتها من قبل الاحتلال الإسرائيلي قد حولت المدن والتجمعات الفلسطينية إلى جزر وكنتونات إضافة إلى ممارسات العقاب الجماعي للفلسطينيين وهدم المنازل ومصادرة الأراضي والمُمتلكات الخاصة وسحب بطاقات الهوية والعمليات العسكرية في السنوات السابقة أدت بدورها أيضا إلى حالة من عدم الاستدامة على أرض الواقع.
إن القضية الفلسطينية تعتبر القضية المركزية في الصراع العربي الإسرائيلي والدائر منذ عقود، فقد أعطى مؤتمر مدريد للسلام فرصة تاريخية للوصول إلى سلام عادل ودائم في الشرق الاوسط إستنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية ومبدأ " الأرض مقابل السلام" واليوم وبعد عشر سنوات من التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين فالسلام لم يتحقق وحتى إتفاقية الحكم الذاتي المرحلية لم تلتزم إسرائيل ببنودها إن لم تكن نسفتها، وقضايا الحل النهائي أصبحت بعيدة المنال بسبب التعنت والاستهتار الاسرائيلي بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها.
إن قضية السيادة على الأرض هي أهم مبادىء الأمم لتكون قادرة على تحقيق الإستدامة والتنمية والتقدم والإدارة البيئية السليمة. إن قضية الشعب الفلسطينية تختلف عن قضايا الشعوب الأخرى من جهة ضرورة عبورهم من الإحتلال وصولا إلى التحرر على خطوات ومراحل. إن من شأن عدم القدرة على تقنين إستخدام الاراضي وتنظيمه على رقعة جغرافية متصلة أن يؤدي إلى عدم القدرة على تحقيق نظام بيئي متوازن ووضعية البيئة لا يمكن مراقبتها على الوجه الأمثل بيينما حماية البيئة لا يمكن تطبيقها .
إن تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى "أ" "ب" و "ج" قد أوجد مخططين متضاضين بالتوازي: الأول إسرائيلي يضمن مصلحة المستوطنين القاطنين في مستوطنات الضفة الغربية ، بينما الثاني فلسطيني ليخدم الشعب الفلسطيني ولكن المخطط الاسرائيلي والذي يقوم على التحكم والسيطرة على الارض قد أضعف المخطط الفلسطيني وأدى الى تدميرالمعادلة البيئية الفلسطينية. على أرض الواقع ، فإن للفلسطينيين إمكانية محدودة للوصول إلى الموارد الطبيعية الهائلة في مناطق الضفة الغربية خاصة تلك الموجودة في الاغوار والسفوح الشرقية والتي تكتنز في باطنها السواد الأعظم من الموارد الطبيعية غي الأراضي الفلسطينية.
للأسف الشديد فإن لصعوبة وصول الفلسطينيين إلى غالبية مناطق هذه الموارد قد أدى إنحسار القدرة على إستصلاح الاراضي الزراعية في هذه المناطق إلى الحد الأدنى الأمر الذي أدى إلى إضعاف وتحجيم الاقتصاد الزراعي الفلسطيني أضف إلى ذلك الرعي الزائد في الأراضي المحدودة التي يستطيع الفلسطينيين الوصول اليها في منطقة الأغوار أدى إلى نضوب الغطاء النباتي والذي أدى بدوره إلى مشاكل بيئية خطيرة في هذه المناطق كتاكل التربة والتصحر .
لقد سعت إسرائيل وبخطىً ثابتة لتضييق الخناق على المواطنين الفلسطينيين ولطالما إستمرت وتصاعدت هذه الانتهاكات والمُمارسات على نهو ممنهج مع مرور الزمن وحتى خلال العملية السلمية وذلك لتحقيق مُخططها التوسعي لنهب وضم أكبر قدر ممكن من الاراضي الفلسطينية وضمان إبقائهم بكثافة في مناطق معزولة. على دولة الإحتلال الإسرائيلي أن تخلي وتنسحب من كافة الاراضي التي إحتلتها في عدوان العام 1967 بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة والجولان السوري المحتل ومزارع شبعا اللبنانية وخلافا لذلك ستستمر حالة عدم الاستقرار والفوضى والعنف في إقليم الشرق الأوسط بأسره.