إن وباء البؤر الاستيطانية الاسرائيلية الذي اخذ بالتفشي في مناطق الضفة الغربية منذ العام 1996 قد اخذ أبعادا مختلفة منذ ذلك الحين, حيث كانت بدايتها دعوة’ شارونية’ للمستوطنين اليهود للاستيلاء على مواقع التلال و المرتفعات الفلسطينية للحيلولة دون تسليمها للفلسطينيين لاحقا في إطار تسوية مستقبلية بين الجانبين. ورغم أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ما بين الاعوام 1996 و 2009 لم تمنح تلك الظاهرة أي غطاء قانوني بالظاهر, فقد قامت بالرغم من ذلك بتوفير غطاء امني لها و لوجستي لوجودها و استمرارها, و على وجه التحديد بعد العام 2001 حين تولى أرييل شارون زمام الحكم و أطلق العنان لهذه البؤر, الأمر الذي لم يشكل مفاجأة في حينها و خاصة أن المذكور قد أصدر نداءاً للمستوطنين الإسرائيليين في العام 1998, حينما تولى وزارة الزراعة الإسرائيلية أبان حكم بنيامين نتنياهو، دعا فيه المستوطنين لاحتلال تلال الضفة الغربية حتى لا تخسرها إسرائيل لصالح الفلسطينيين خلال المفاوضات, الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ملحوظ في عدد تلك البؤر في المناطق الفلسطينية. كما دأب الجيش الإسرائيلي أيضا على مساعدة هؤلاء المستوطنين الإسرائيليين في الانتقال و الاستقرار في تلك المواقع بل و تامين الحماية لهم و مدهم بالبنية التحتية الأساسية لضمان بقائهم فيها.
وقد أضحت ظاهرة البؤر الاستيطانية تضاهي بخطورتها المستوطنات القائمة حيث تسيطر حفنة من المستوطنين على أراضي شاسعة في مناطق عشوائية في الضفة الغربية تعمل على تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية وتعزيز سياسة الفصل الإسرائيلية بخلاف ما تم الإشارة إليه في خارطة الطريق بخصوص إزالة تلك البؤر وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل جغرافي وتتمتع بالسيادة.
و الجدير ذكره أن إقامة البؤر الاستيطانية قد تم وفق سياسة إسرائيلية هدفت إلى تضليل المجتمع الدولي فيما يتعلق بالأهداف المنظورة لتلك البؤر ، حيث تم إقامة عدد من تلك البؤر ضمن المخططات الهيكلية للمستوطنات القائمة و أصبح يطلق عليها اسم ‘أحياء استيطانية’ غرضها الالتفاف على الضغوط الدولية على إسرائيل للحد من توسيع المستوطنات. اما النوع الأخر من البؤر فهي تلك التي يتم بناؤها في مناطق خارج حدود المخططات الهيكلية للمستوطنات وبالتالي يمكن اعتبارها نواة لمستوطنات إسرائيلية جديدة
رئيس جديد وسياسة جديدة للولايات المتحدة الامريكية و موضوع قديم هو ازالة البؤر الاستيطانية الاسرائيلية العشوائية من مناطق الضفة الغربية. فمنذ بدء هذه الظاهرة في العام 1996, أقدم المستوطنون الإسرائيليون على إنشاء 232 بؤرة استيطانية اسرائيلية بحسب اخر قراءات ميدانية لمعهد الأبحاث التطبيقية – القدس (أريج). و قد اجمعت الاقطاب السياسية في الغرب و حتى البعض منها في اسرائيل على ضرورة اقتلاع تلك البؤر لما تحدثه من ضرر اضافي لما يقوم به المستوطنون الإسرائيليون من نشاطات متعددة في الضفة الغربية.
وقد أشار الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون و الذي كان يجلس في سدة الحكم عند انطلاق تلك الظاهرة بان ما يقوم به المستوطنون من شانه عرقلة العملية السلمية الفلسطينية – الاسرائيلية ، كما دعى اسرائيل الى ضرورة تفكيك تلك البؤر و اعادة الوضع على ما كان عليه. و خلال فترة حكم كلينتون المترافقة لظاهرة البؤر الاستيطانية من العام 1996 وحتى الثلث الثاني من كانون الثاني من العام 2001، كان المستوطنون الاسرائيليون قد اوجدوا 79 بؤرة استيطانية في مناطق مختلفة في الضفة الغربية المحتلة حيث لم يستطع الرئيس الامريكي الا الوقوف عاجزا امام هذه الظاهرة المتنامية.
وعند تولي الرئيس الامريكي اللاحق جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة الامريكية, اتخذ الاخير موقفا بدا في العلن صارما فيما يتعلق بالبؤر الاستيطانية الاسرائيلية مؤكدا بان اقتلاعها امر ضروري للحفاظ على العملية السلمية وان وجودها من شانه ان يهدد الجهود الرامية لابرام اتفاقية سلام نهائية بين الفلسطينيين و الاسرائيليين, حيث اعلن عن وجود خطة لانهاء الصراع عرفت لاحقا بمبادرة ‘خارطة الطريق’ و هي خطة منبثقة عن اللجنة الرباعية اعلن عنها رسميا في العام 2003 و تم من خلالها دعوة اسرائيل لاقتلاع البؤر الاستيطانية التي تم انشاؤها منذ آذار 2001 بالإضافة إلى تجميد كافة النشاطات في المستوطنات الإسرائيلية، بما في ذلك م يطلق علية ‘النمو الطبيعي’. وفي حينها بدا وكأن اسرائيل لم تاخذ ما جاء في بيان اللجنة الرباعية وخارطة الطريق على محمل الجد ، حيث كان المستوطنون قد اقاموا خلال تلك الفترة الزمنية (2001-2003) 60 بؤرة استيطانية. و اكثر من ذلك, لم تتخذ الحكومة الاسرائيلية برئاسة شارون في ذلك الحين اي اجراء من شانه ردع المستوطنين عن اقامة بؤر استيطانية جديدة استجابة للجنة الرباعية، حيث سعى شارون في حينها الى مناورة من شانها وقف اية ضغوطات على الحكومة الاسرائيلية و المستوطنين بان دعا الى اجراء تحقيق اسرائيلي مستقل فيما يتعلق بتلك البؤر حتى يتسنى للحكومة اتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة فيما يتعلق من تلك البؤر في حين انه رفض التعاطي مع موضوع تجميد البناء الاستيطاني بذريعة انه حاجة لسد النمو الطبيعي للسكان الاسرائليين هناك. هذا و قد استمر عمل ما تسمى بلجنة التحقيق الاسرائيلية فيما يتعلق بتلك البؤر حتى العام 2005 حين تم الاعلان عن نتائج التحقيق فيما عرف لاحقا بتقرير ‘ ساسون’ و هي مدعية اسرائيلية سابقة كان شارون قد اوعز لها باجراء تحقيق مستقل بشان تلك البؤر.
ان ما يجب التنويه اليه هنا هو ان المستوطنين الاسرائيليين قد استمروا باقامة تلك البؤر و بشكل اكبر من السابق حيث بلغ عدد تلك البؤر 213 عندما تم الإعلان عن تقرير ساسون في العام 2005 ( بحسب إحصائيات معهد الأبحاث التطبيقية- أريج) أي بزيادة قدرها 74 بؤرة استيطانية تم إقامتها منذ إعلان اللجنة الرباعية بضرورة تفكيك البؤر الاستيطانية في العام 2003.
اما فيما يتعلق بتقرير ساسون، فقد اراد الاسرائيليون المناورة بشان حقيقة تلك البؤر، فقد اشار التقرير فقط الى 105 بؤر استيطانية غير قانونية تم اقامتها بمبادرة من المستوطنين انفسهم وبشكل غير قانوني اي بدون تصريح حكومي. وهنا اراد الاسرائيليون خلق طابع لدى اللجنة الرباعية مفاده ان اسرائيل هي دولة قانون و ليست دولة احتلال بل و اكثر من ذلك تشويش ظاهرة البؤر الاستيطانية بمحاولة صبغ البعض منها بغطاء قانوني وذلك بالإشارة إلى أن هنالك بؤر قانونية وهي تلك التي لم يتم الاشارة اليها في التقرير والبالغ عددها 108 بؤرة استيطانية .
وعلى اثر هذا التقرير, اعلنت الحكومة الاسرائيلية منذ العام 2005 عن عدد من المبادرات مفادها الشروع بتنفيذ خطط اخلاء لعدد من البؤر ولم يتم فعليا اخلاء اي منها في نهاية الامر. كما كانت هناك عدد من الاستعراضات لاخلاء البؤر حيث يقوم الجيش الاسرائيلي باخلاء المستوطنين في الصباح مع ابقاء الموقع تحت سيطرة الجيش امام عدسات الكاميرات ليعاود المستوطنون السيطرة على الموقع ذاته في المساء, وفي حالات اخرى, ان يقوم المستوطنين بانشاء موقع بديل بعد عدة ايام و تحت حماية الجيش الاسرائيلي.
وبحلول العام 2007 وقبل انعقاد مؤتمر انابوليس للسلام في شهر تشرين الثاني من العام 2007, كان عدد البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية قد ارتفع الى 220 بؤرة استيطانية، وكان المستوطنون قد اقاموا منذ ذلك الحين 12 بؤرة استيطانية اضافية ليبلغ عددها 232 بؤرة موجودة حاليا في الضفة الغربية عند استلام الرئيس الامريكي الجديد اوباما الحكم في الولايات المتحدة في 20 كانون الثاني من العام 2009. الجدول التالي يوضح عدد البؤر الاستيطانية التي أقيمت ما بين الأعوام 1996 و حتى 2001 و ما بين 2001 حتى 2003 و ما بين 2003 و حتى 2009, بشكل غير منقطع.
الفترة الزمنية |
عدد البؤر |
1996-2001 |
79 |
2001-2003 |
60 |
2003-2009 |
93 |
المجموع |
232 |
المصدر: قاعدة المعلومات في وحدة نظم المعلومات الجغرافية
للعام 2009– أريج
اوباما و البؤر الاستيطانية
لقد رافق تولي الرئيس الامريكي (باراك اوباما) الحكم في امريكا موجة من التفاؤل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بشكل عام. و بالرغم من اشارة اوباما بان الولايات المتحدة ملتزمة بأمن اسرائيل و هي جملة متعارف عليها لكل رئيس امريكي يتولى الحكم الا ان اوباما اشار ايضا بضرورة ايجاد دولة للفلسطينيين و ضرورة وقف الاستيطان بكافة اشكاله. و كما هو معتاد, فقد بدا الحديث عن ضرورة تجميد الاستيطان واقتلاع البؤر الاستيطانية, وبدا الموقف الامريكي بهذا الشان حازما نوعا ما و قد بدا ايضا وكأن اسرائيل ستقوم بالفعل بالشروع بتفكيك و اخلاء عدد من البؤر الاستيطانية. ولكن اسرائيل تسعى كالعادة الى افراغ الامر من مضمونه وذلك بالاقرار بان تلك البؤر هي جزء من الية الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية، و عليه فقد شرعت اسرائيل بالاعلان عن نيتها اخلاء مواقع لبؤر استيطانية كان قد تم انشاؤها على اراضي فلسطينية عامة او اراضي تدعي انها اراضي حكومية (تحت سلطة الاحتلال). و من جهة اخرى, فقد اشار رئيس الوزراء الاسرائيلي ‘ بنيامين نتنياهو’ بانه في حين ان اسرائيل تتعهد بعدم اقامة اية مستوطنات جديدة فانه ليس من العدل ان يتم وقف التوسعات الاضافية في المستوطنات الاسرائيلية القائمة استجابة لنمو السكان الطبيعي فيها.
اوباما يرفض أي اتفاقيات سرية سابقة وغير مكتوبة.
وهنا الاشارة الى الادعاء الاسرائيلي بوجود اتفاقية سرية (وقد تكون بالفعل) ما بين الرئيس الامريكي السابق جورج بوش و رئيس الحكومة الاسرائيلية السابقة أرييل شارون و ايهود اولمرت من بعده مفادها بان تحتفظ اسرائيل بتجمعات استيطانية في الضفة الغربية مقابل الانسحاب الاحادي الجانب من قطاع غزة و الذي تم بالفعل في العام 2005 . غير ان اسرائيل كانت قد فرضت الاتفاق من جانبها حين شرعت ببناء جدار العزل العنصري في الضفة الغربية في شهر حزيران من العام 2002 و الذي سيتم على اثره عزل قرابة ال 13 % من الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية خلف الجدار بما في ذلك التجمعات الاستيطانية الرئيسية و مدينة القدس تمهيدا لضمها الى اسرائيل.
ومن هنا يمكن الاستنتاج بان اسرائيل نجحت الى حد ما في فرض شروطها على خطة الانسحاب وذلك بتأجيل الحديث عن التوسعات الاستيطانية و اعتبارها موضوعا مؤجلا و التركيز على الانسحاب من عدد من البؤر الاستيطانية الاسرائيلية العشوائية و التي تم الاثبات بانها أقيمت على أراضي فلسطينية خاصة حيث يتم الحديث في المرحلة الاولى عن الانسحاب من 26 بؤرة استيطانية, 10 منها (بحسب ما تم الاشارة اليه في تقرير ساسون) قد تم انشاؤها على اراضي فلسطينية خاصة و 16 تم انشائها على أراضي تدعي إسرائيل بأنها أراضي حكومية و عليه فان المحصلة هي الحديث عن 10 بؤر استيطانية سيتم اخلاؤها من اصل 232 بؤرة، و المطلوب هنا ،وبناء على ما نص عليه في خارطة الطريق إخلاء 153 بؤرة استيطانية وليس ما يتم طرحه حاليا من قبل وزير الحرب الإسرائيلي أيهود باراك الذي يستعد لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية لطرح استعداد الحكومة الإسرائيلية إزالة 26 بؤرة استيطانية او حتى 10 منها مقابل الحصول على موافقة أمريكية لاستمرار السياسات الإسرائيلية بشان التوسع الاستيطاني.
وفي تقارير سابقة لمنظمات اسرائيلية تم الاشارة الى ان 40% من الاراضي التي تم إقامة مواقع استيطانية عليها هي اراضي فلسطينية خاصة وذلك ما تسعى اسرائيل الى تثبيته ، في حين ان الواقع هو ان كل ما تم انشاؤه على الاراضي الفلسطينية المحتلة هو بناء غير قانوني بما في ذلك البؤر و المستوطنات و الجدار وغير ذلك.
هل سيكون هناك اخلاء؟
لقد اضحى الحديث عن اخلاء بؤر استيطانية هو احد الطقوس السياسية التي تمارسها كل حكومة اسرائيلية جديدة. فبينما يتم الحديث عن اخلاء في مناطق معينة يتم التصريح بانشاء بؤر و توسيع مستوطنات في مواقع اخرى حيث اصبحت سياسة اسرائيل هي تركيز عمليات توسيع المستوطنات و انشاء بؤر في المناطق الواقعة خلف الجدار و التي تسعى اسرائيل لضمها عقب الانتهاء من بناء الجدار، و في المقابل فان اسرائيل ستسمح باخلاء العديد من البؤر الاستيطانية في مواقع اخرى و التي تم انشائها بهدف المساومة لاحقا وهذا ما يحدث اليوم.
لقد سعت إسرائيل طوال الوقت إلى تضليل العالم فيما يتعلق بحقيقة البؤر الاستيطانية حيث قامت بمحاولة إضفاء الشرعية على جزء منها و ذلك من خلال إصدار تقارير وزارية صنفت جزء منها شرعي و أخرى غير ذلك و الحقيقة هي أنه جميع هذه البؤر شأنها شأن المستوطنات و كل ما هو اسرائيلي على الاراضي الفلسطينية المحتلة, هي غير قانونية و أنها بنيت على أراضي فلسطينية مصادرة بمساعدة و تعاون مختلف الوزارات الإسرائيلية و التي دأبت على تزويد هذه البؤر بالميزانيات المطلوبة لدعمها تحت ادعاءات مختلفة. و رغم أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد أعلنت عدة مرات عن التزامها بإخلاء هذه البؤر بحسب خارطة الطريق إلا أنها لم تقم فعلياَ بعمل أي شيء على أرض الواقع أكثر من إصدار أوامر على الورق. و من هنا يجب التأكيد على أن جميع البؤر الاستيطانية هي غير قانونية و أن ضرورة إزالتها أمر ضروري لإعادة دفع عملية السلام مع التأكيد على تطبيق كافة أوامر الإزالة الصادرة بحقها و إعادة تسليم الأراضي إلى أصحابها الشرعيين الفلسطينيين.
إن ما تقوم به إسرائيل من تسهيل لمهمة المستوطنين في الضفة الغربية من شأنه تقويض عملية السلام المتزعزعة أصلاً و إن قيام الحكومة الإسرائيلية بتجاهل إجماع المجتمع الدولي على الأقل فيما يتعلق بإخلاء تلك البؤر هو مؤشر بالواقع لما هو أكبر من ذلك و تحديداً فيما يتعلق بقضايا الوضع النهائي كالمستوطنات و الحدود و القدس. و إن استمرار إسرائيل بتظليل العالم بنشر ادعاءات كاذبة سيكون له أثر سلبي على العملية السلمية برمتها.