مقدمة
في خطوة تجسد سياسة الضم الزاحف التي تنتهجها إسرائيل منذ عقود، وجدت ثلاث قرى فلسطينية تقع إلى الشمال الغربي من مدينة القدس، بيت إكسا، النبي صموئيل، وحي الخلايلة، نفسها فجأة خارج السجل الإداري الفلسطيني وداخل دائرة السيطرة الإسرائيلية المباشرة. لم يعد الأمر مجرد مسألة تصاريح مرور أو إجراءات أمنية مؤقتة، بل تحول إلى إعادة رسم للحدود الميدانية على الأرض، في مسار يعكس تداخلا بين القرارات العسكرية والسياسات الاستيطانية الكبرى التي تستهدف إعادة تشكيل المشهد الديمغرافي والسياسي في محيط القدس. هذه الخطوة ليست معزولة، بل تأتي في إطار مشروع “القدس الكبرى” الرامي إلى تفريغ المدينة ومحيطها من سكانها الفلسطينيين وتكريس طابع استيطاني يهودي عليها.
إعلان 20 ألف دونم كمنطقة عازلة
في مطلع عام 2025، أصدر قائد القيادة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيلي أمر إغلاق عسكري رقم (س/01/25)، نص على اعتبار نحو 20 ألف دونم (20 كيلومترا مربعا) من الأراضي الفلسطينية شمال القدس، بما يشمل القرى الثلاث، منطقة تماس .(Seam Zone) بموجب القرار، يفرض نظام تصاريح عسكري صارم يقيد دخول الفلسطينيين، ويمنع أصحاب الأراضي من ممارسة حقوقهم الطبيعية في الوصول إلى ممتلكاتهم أو استغلالها.
يأتي هذا الإجراء في إطار خطة أوسع تهدف إلى ربط شمال غرب القدس بالمستوطنات الكبرى مثل جفعات زئيف، وهو ما اعتبر من قبل الفلسطينيون مقدمة صريحة لتنفيذ مشروع “القدس الكبرى”، بما يعنيه ذلك من ضم فعلي بحكم الأمر الواقع للأرض والسكان.
مفهوم “منطقة التماس” – من الأمن إلى السيطرة
تعود جذور مفهوم “منطقة التماس” إلى مطلع الألفية الثانية حين شرعت إسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري داخل أراضي الضفة الغربية. هذا الجدار، الذي تجاوز الخط الأخضر في معظم مساره، أدى إلى محاصرة عشرات القرى الفلسطينية وعزل مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة. ورغم الادعاء الإسرائيلي أن الخطوة “ذات أهداف أمنية”، إلا أن الأراضي التي وقعت على الجانب الإسرائيلي من الجدار صنفت كمناطق “تماس”، وأخضع الفلسطينيون فيها لنظام تصاريح معقد.
عمليا، لم يؤد هذا النظام إلى “تسهيل وصول المزارعين” كما زعم، بل تحول إلى أداة لمنعهم من الوصول إلى أراضيهم وتكريس مصادرتها بمرور الوقت.
هذا وقد عززت تقارير صادرة عن مؤسسات حقوقية إسرائيلية ودولية مثل بتسيلم وهيومن رايتس ووتش أكدت فيها أن إسرائيل استخدمت هذا النظام لتعميق السيطرة والحرمان، ما أدى إلى تجريد المزارعين من أراضيهم وإفقادهم مصادر رزقهم.
التغيير عن الوضع القائم
في منطقة جفعات زئيف، اكتمل بناء الجدار عام 2010، وحجزت نحو 20 كيلومترا مربعا بين الجدار، الطريق الالتفافي 443، والخط الأخضر. وأدى ذلك إلى عزل قرى بيت إكسا، النبي صموئيل، وحي الخلايلة على الجانب الإسرائيلي من الجدار، فيما فرضت على سكانها أنظمة صارمة لعبور الحواجز مثل حاجزي الجيب وبدو.
وبينما سمح للسكان الأصليين بالدخول عبر قوائم رسمية، كان على الأقارب والمعلمين والأطباء والفنيين الحصول على تصاريح خاصة تتطلب تنسيقا أمنيا معقدا. أما المزارعون، فكانوا مضطرين لتقديم طلبات فردية موسمية للوصول إلى أراضيهم، ما جعل الأمر شبه مستحيل وأدى إلى تعطيل حياتهم الاقتصادية والاجتماعية.
الضم غير المعلن – بين الواقع والقانون الدولي
إن عزل قرى بيت إكسا، النبي صموئيل، وحي الخلايلة لا يمكن اعتباره مجرد خطوة إدارية أو أمنية، بل هو خطوة متقدمة نحو الضم الفعلي غير المعلن. فإخضاع هذه القرى لإدارة مدنية إسرائيلية بدل السجل الفلسطيني يمثل انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل القسري للسكان أو التغيير الديمغرافي القسري في الأراضي المحتلة.
إسرائيل تتعامل مع هذه القرى وكأنها ضمن سيادتها، رغم أنها مصنفة وفق اتفاق أوسلو ضمن منطقتي “ب” و”ج“، وتدار إداريا من قبل السلطة الفلسطينية. هذه المفارقة تكشف عن استراتيجية الضم الصامت التي تتقدم ببطء ولكن بثبات.
البعد الاستراتيجي – القدس الكبرى وحزام العزل
تحويل 20 ألف دونم شمال القدس إلى منطقة تماس ليس مجرد إجراء منفرد، بل يأتي ضمن مشروع أوسع لإقامة “حزام استيطاني“ يطوق القدس الشرقية من جميع الجهات. هذا الحزام يمتد من معاليه أدوميم شرقا مرورا بـ جفعات زئيف شمالا وصولا إلى الكتل الاستيطانية جنوبا وغربا. الهدف واضح: عزل القدس الشرقية نهائيا عن الضفة الغربية وفرضها كعاصمة موحدة لإسرائيل.
التداعيات الإنسانية والسياسية
- تعميق العزلة الجغرافية والاجتماعية: تحولت القرى الثلاث إلى جزر معزولة تماما، محرومة من التواصل الطبيعي مع محيطها الفلسطيني.
- تقييد الحقوق اليومية: نظام التصاريح جعل حياة السكان سلسلة من العراقيل البيروقراطية، ما يدفعهم تدريجيا إلى التفكير بالرحيل، وتحديدا الأجيال الشابة.
- إعادة تشكيل البنية الديمغرافية: في مقابل خنق الفلسطينيين، حيث يشهد المحيط نشاطا استيطانيا متصاعدا يهدف إلى تعزيز الهيمنة الإسرائيلية حول القدس.
- إغلاق أفق التسوية: تحويل الأرض إلى مناطق تماس وضمها فعليا يقوض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مترابطة جغرافيا.
خلفية عن القرى الثلاث
- بيت إكسا: تقع شمال غرب القدس على مساحة 9000 دونم ويقطنها نحو 1400 نسمة. بعد بناء الجدار عام 2004، تحولت إلى معزل لا منفذ له إلا عبر حاجز عسكري. تعاني من منع التوسع العمراني وتراجع النمو السكاني.
- النبي صموئيل: قرية صغيرة بمساحة 3500 دونم، لم يتبق لأهلها سوى 1050 دونم بعد مصادرة أراضيها وتحويلها إلى “حديقة وطنية إسرائيلية”. يقطنها نحو 400 فلسطيني يعيشون تحت قيود صارمة وهدم متكرر للمنازل.
- حي الخلايلة: يقع غرب القدس على مساحة 4000 دونم، محاط بأربع مستوطنات إسرائيلية تهدد وجوده. يسكنه قرابة 400 فلسطيني يعانون نقص الخدمات والبنى التحتية الأساسية.
الخلاصة
إن إعلان “منطقة تماس” شمال القدس يعكس المعركة على المكان والذاكرة والسيادة. هو ليس مجرد سياسة أمنية بل جزء من مشروع استيطاني طويل الأمد يستهدف تفريغ الأرض من سكانها الفلسطينيين عبر المنع والمصادرة والتضييق. هذه السياسة تمثل شكلا من أشكال التهجير القسري البطيء الذي يفضي إلى إعادة رسم المشهد الديمغرافي في محيط القدس لصالح إسرائيل.
في وقت يتحدث فيه العالم عن حل الدولتين، تمضي إسرائيل في فرض وقائع استيطانية تجهض هذا الحل، وتدفع نحو واقع فصل عنصري قائم على السيطرة الإسرائيلية الكاملة. وبذلك، تدفن أي آفاق لسلام عادل ودائم يقوم على العدالة وحقوق الشعوب.
اعداد: