مقدمة
حي الشيخ جراح، هو حي فلسطيني تاريخي في القدس الشرقية المحتلة، رمزا للصراع المستمر على الأرض والهوية والسيادة في المدينة. منذ الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية عام 1967، كانت المنطقة محور نزاعات قانونية وعمليات إخلاء قسري تعكس مخططات على نطاق أوسع الهدف منها هو نزع الملكية في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة. الصراع هنا ليس مجرد نزاع على الملكية، بل يرمز أيضا إلى مساعي ممنهجة لإعادة تشكيل التركيبة السكانية للقدس، وتقويض الوجود الفلسطيني، وترسيخ التوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
جوهر النزاع
تكمن أزمة حي الشيخ جراح في إطار قانوني وسياسي غير متوازن وتمييزي إلى حد كبي، ويمكن اجمالها بالتالي:
- السكان الفلسطينيون: تعيش عشرات العائلات الفلسطينية، وهي التي تم تهجيرها خلال نكبة عام 1948، في حي الشيخ جراح منذ خمسينيات القرن الماضي بموجب ترتيبات خاصة تم تنظيمها وصياغتها في ذلك الوقت ما بين الحكومة الأردنية ومنظمة الأونروا لرعاية اللاجئين. بالنسبة لهذه العائلات، لا يعد حي الشيخ جراح مجرد حي، بل هو الملاذ بعد عملية التهجير من قراهم.
- ادعاءات المستوطنين الإسرائيليين: اتخذت منظمات المستوطنين اليهود إجراءات قانونية لطرد العائلات الفلسطينية المهجرة من منازلهم، بعد تذرعهم بمزاعم ملكية اليهود للأرض التي تم بناء الحي عليها وذلك قبل عام 1948. وتستند هذه المطالبات إلى تشريعات إسرائيلية تمنح اليهود (فقط) الحق في استعادة ممتلكاتهم التي فقدت قبل وخلال وبعد عام 1948، بينما تحرم الفلسطينيين بشكل قاطع من الحق المتبادل في استعادة منازلهم وأراضيهم التي فقدت في تلك الحرب نفسها.
- التباين القانوني: ضمن هذا الإطار، فان الاحكام القانونية الصادرة عن المحاكم الإسرائيلية تكون لصالح المستوطنين. وبالرغم من التباعد الزمني ما بين الاحداث، إلا ان القضاء الإسرائيلي قد مكن والى حد كبير، المستوطنين من ادعاءاتهم من خلال إصدار أوامر الإخلاء، محولا الساحة القانونية إلى أداة للتعبئة الديموغرافية بدلا من كونها اداة محايدة لتحقيق العدالة.
ازدياد التوتر والقلق الدولي
أثارت عمليات الإخلاء القسري والتهديدات بالتهجير في حي الشيخ جراح مرارا وتكرارا احتجاجات ومواجهات عنيفة واهتماما دوليا واسع النطاق. وقد حذرت الأمم المتحدة وخبراء قانونيون دوليون، بما في ذلك لجنة الحقوقيين الدولية، من أن عمليات الإخلاء هذه قد تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، والتي قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
هذا وقد أثارت احتجاجات عام 2021 في الشيخ جراح موجة من مظاهرات التضامن في جميع أنحاء فلسطين والعالم، مسلطة الضوء على الدور الرمزي والاعتباري للحي في مسعى النضال الفلسطيني من أجل حق تقرير المصير. كما كشفت هذه الاحتجاجات عن الاستراتيجية الأوسع للاحتلال الإسرائيلي لتعزيز سيطرته على القدس الشرقية من خلال تجزئة الأحياء الفلسطينية وتعزيز الجيوب الاستيطانية.
مرحلة جديدة من التهجير: مخططات لهدم المنازل في الشيخ جراح
دخلت أزمة حي الشيخ جراح مرحلة خطيرة بعد كشف بلدية الاحتلال في القدس، بدعم مباشر من الحكومة الإسرائيلية، عن خطط لإقامة بؤرة استيطانية كبرى تضم نحو 340 وحدة استيطانية في قلب الحي، على أنقاض منازل الفلسطينيين. يتطلب المشروع هدم ما يقارب 40 مبنى سكنيا وتهجير عشرات العائلات قسرا، في خطوة تمثل امتدادا لسياسة السيطرة الديموغرافية الإسرائيلية الرامية إلى تكريس أغلبية يهودية مصطنعة في المدينة المحتلة.
هذا المخطط يعيد إلى الأذهان سابقة هدم حارة المغاربة عام 1967، حين أزالت إسرائيل الحي التاريخي بالكامل بعد أيام من احتلال القدس الشرقية بهدف توسيع ساحة حائط البراق. واليوم، يعاد استحضار السيناريو ذاته في الشيخ جراح، بما يجعله المحاولة الثانية منذ 1967 لمحو حي فلسطيني بكامله واستبداله بمستوطنة يهودية، في تعبير واضح عن الطبيعة الممنهجة للمشروع الاستيطاني كأداة لاقتلاع الفلسطينيين من قلب القدس.
الأخطر أن عملية نقل ملكية الأراضي المخصصة للمشروع جرت بإجراءات سرية وملتوية عبر ما يسمى “الحارس العام لأملاك الغائبين”، ولم يكشف عنها إلا في عام 2021. خلال هذه العملية، حرم السكان الفلسطينيون من أي إخطار أو حق في الاعتراض، ما يعكس نمط الإقصاء المؤسسي الذي تستخدمه إسرائيل في قضايا الملكية والأراضي بالقدس. هذا الأسلوب ليس حالة منفصلة، بل يتكرر في أحياء أخرى مثل سلوان والعيساوية، حيث تستخدم القوانين التمييزية وذرائع “التنظيم العمراني” كغطاء لتهويد المدينة وتجريد الفلسطينيين من منازلهم.
وعليه، فإن ما يحدث في الشيخ جراح ليس مجرد نزاع عقاري محلي، بل حلقة ضمن مشروع استيطاني شامل يسعى إلى إعادة تشكيل المشهد الديموغرافي والعمراني للقدس الشرقية بما يخدم الأهداف الإسرائيلية طويلة الأمد: تطويق الوجود الفلسطيني، تقليص مساحته الجغرافية، وتفريغ أحيائه من سكانه. وهو مسار يتناقض بشكل صارخ مع القانون الدولي، وعلى رأسه المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل القسري للسكان في الأراضي المحتلة.
حي الشيخ جراح: من احتلال 1967 إلى الاستيطان الممنهج
منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية في حزيران 1967، أصبح حي الشيخ جراح أحد أبرز بؤر الصراع على الهوية والسيادة في المدينة. وقد شرعت السلطات الاسرائيلية مباشرة في أعقاب الاحتلال في تنفيذ خطط استيطانية تستهدف الشيخ جراح. ففي عام 1968، أقيمت مستوطنة معالوت دافنا على أراض صودرت من الحي، لتكون من أوائل المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت الجمعيات الاستيطانية اليهودية، مثل “نحلات شمعون” و”عطيرت كوهانيم”، باستخدام المحاكم الإسرائيلية للسيطرة على بيوت فلسطينية في الشيخ جراح. ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، يواجه اليوم أكثر من 70 عائلة فلسطينية (حوالي 300 فرد) خطر التهجير القسري من منازلهم في كرم الجاعوني، وهو ما يمثل تكرارا لسيناريو النكبة عام 1948 لكن في قلب القدس.
مزيدا من الاستيطان
ولم يتوقف الاستيطان عند السيطرة على المنازل الفردية، بل تطور إلى مشاريع أكبر. ففي تسعينيات القرن الماضي، استولت سلطات الاحتلال على أراض في “قصر المفتي” (مقر المفتي الحاج أمين الحسيني سابقا)، ووضعت خططا لبناء مبان عامة وكنس يهودية لتعزيز الطابع الاستيطاني. وتشير الإحصاءات إلى أن الجمعيات الاستيطانية قدمت مشاريع لبناء أكثر من 200 وحدة استيطانية جديدة في الشيخ جراح، بالإضافة إلى مقرات دينية وتعليمية يهودية.
خريطة رقم 1: المخططات الاستيطانية في حي الشيخ جراح في القدس
عنف المستوطنين
لم يقتصر الأمر على المصادرة القانونية أو العسكرية، بل ترافق مع تصاعد اعتداءات المستوطنين على السكان الفلسطينيين، حيث تم توثيق وتسجيل عشرات الهجمات الجسدية وتخريب الممتلكات في الحي، فضلا عن مضايقات يومية مثل منع السكان من الوصول إلى بعض الطرق أو فرض كاميرات مراقبة وسيطرة عسكرية مشددة. هذه السياسات خلقت بيئة طاردة تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على الرحيل.
البعد الدولي والقانوني
تعتبر الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أن سياسات التهجير في الشيخ جراح تنتهك بشكل مباشر المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل القسري للسكان تحت الاحتلال. كما أن محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري لعام 2004 بشأن الجدار العازل، أكدت عدم شرعية أي تدابير إسرائيلية تغير الطابع الديمغرافي للقدس الشرقية. ورغم الإدانات الدولية، تستمر سلطات الاحتلال في دعم الجمعيات الاستيطانية ماليا وقانونيا لتعزيز سيطرتها على الحي، وذلك ضمن إطار ومشروع أكبر يهدف إلى فرض أغلبية يهودية في المدينة المقدسة على حساب سكانها الفلسطينيين الأصليين.
العواقب والتداعيات
ما يحصل في حي أكثر بكثير من كونه مجرد صراع حول ملكية الأرض وحقوق الإقامة، إنها أداة استراتيجية ضمن مشروع إسرائيل الأوسع للهندسة الديموغرافية في القدس. من خلال تهجير العائلات الفلسطينية وتفتيت نسيجها الاجتماعي، تهدف الخطة إلى ترسيخ أغلبية ديموغرافية يهودية في المدينة. وإلى جانب تأثيرها المباشر، تحمل الخطة تداعيات قانونية وسياسية خطيرة: فهي تهدد بإنشاء سابقة لمحو أحياء فلسطينية بأكملها بحجة “التخطيط الحضري”. لا تمثل هذه الإجراءات اعتداء على حقوق الفلسطينيين ووجودهم في القدس فحسب، بل تمثل أيضا وصفة لتجدد عدم الاستقرار في مدينة القدس المحتلة.
التوصيات والخاتمة
تتطلب معالجة أزمة حي الشيخ جراح استراتيجية متعددة الأبعاد تجمع بين المساءلة الدولية، والمناصرة القانونية، والضغط الدبلوماسي، والتعبئة الشعبية. يجب على الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى تكثيف الرصد والاعتراف الصريح بان الخطة الإسرائيلية ما هي إلا انتهاكا واضحا للقانون الدولي، الامر الذي يحتم على الدول النظر في فرض عقوبات محددة على الأفراد والمؤسسات المتواطئة بشكل مباشر في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي.
في الوقت نفسه، تحتاج العائلات الفلسطينية بشكل عاجل إلى دعم قانوني مستدام للطعن في أوامر الإخلاء أمام المحاكم المحلية والدولية، مدعوما بجهود توثيق موسعة من منظمات المجتمع المدني لتعزيز الإجراءات المستقبلية أمام المحكمة الجنائية الدولية. ينبغي على الجهات الدبلوماسية الفاعلة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول العربية، أن تجعل أي تفاعل سياسي مستقبلي محتمل مع إسرائيل مشروطا بوقف عمليات الإخلاء القسري والتوسع الاستيطاني، مع التأكيد أيضا على أن الشيخ جراح جزء لا يتجزأ من القضية الأوسع المتمثلة في القدس عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية. بالتوازي مع هذه الجهود، يجب على المجتمع المدني العالمي أن يتداول قضية الشيخ جراح، ويضعها ليس في إطار نزاع محدود على الملكية، بل كجزء من سياسة تهجير ممنهجة، ويربطها بأحياء أخرى مهددة مثل سلوان والبستان وبطن الهوى. ومن خلال هذا التكتيك المتكامل فقط، يمكن للمجتمع الدولي مواجهة أجندة التهجير الإسرائيلية المتعمدة والدفاع عن الوجود الفلسطيني في القدس.
الشيخ جراح أكثر بكثير من مجرد نزاع محلي على عقارات أو منازل، بل هو تجسيد لسياسة ممنهجة تهدف إلى التهجير القسري والمتعمد للتهجير والتوسع الاستيطاني وإعادة الهندسة الديموغرافية في قلب القدس الشرقية. إن التهديد بهدم منازل الفلسطينيين لإفساح المجال أمام جيب استيطاني جديد يمثل منعطفا حاسما، يحمل في طياته خطر محو حي بأكمله وإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي للمدينة. بالنسبة للفلسطينيين، يجسد الشيخ جراح تقلب وجودهم في القدس، وبالنسبة لإسرائيل، فهو مناورة محسوبة لترسيخ السيطرة وترسيخ الهيمنة الديموغرافية. وبالنسبة للمجتمع الدولي، يعد هذا اختبارا حاسما لمدى غلبة مبادئ القانون الدولي والعدالة على المنطق السياسي. لذا، فإن حماية الشيخ جراح لا تقتصر على حماية حي واحد فحسب، بل تشمل أيضا الحفاظ على إمكانية تحقيق سلام عادل ودائم في القدس نفسها.
بالنسبة للفلسطينيين، يمثل الشيخ جراح رمزا لهشاشة وجودهم في القدس، حيث يمكن أن يتحول أمنهم السكني إلى ورقة بيد سياسات الاحتلال في أي لحظة. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن المشروع يعد خطوة استراتيجية مدروسة لترسيخ سيطرتها المكانية وتثبيت هيمنتها الديموغرافية على حساب السكان الأصليين. وعلى الصعيد الدولي، يشكل هذا المخطط اختبارا صريحا لإرادة المجتمع الدولي، ويطرح سؤالا مفصليا: هل تسود مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، أم أن الحسابات السياسية وموازين القوى ستظل تتغلب على العدالة؟
إن الدفاع عن الشيخ جراح يتجاوز حدود حي بعينه، فهو دفاع عن حق الفلسطينيين في البقاء في مدينتهم، وعن إمكانية الحفاظ على هويتهم المقدسية كمدينة متعددة الثقافات والديانات، بل وعن أفق أي تسوية عادلة ودائمة للصراع برمته.
اعداد:
معهد الابحاث التطبيقية – القدس ( أريج)
