إن اقتراح الإدارة الأمريكية بناء مدينة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية أتى بشكل مفاجئ باعتباره تغيير من نوع أخر , حيث لم يسبق لاي من الإدارات الأمريكية المساهمة او حتى إبداء الرغبة في عمليات إعادة البناء للمناطق التي دمرتها اسرائيل في أي من مناطق الضفة الغربية و قطاع غزة , ومع ذلك فإن الاقتراح يشكل فكرة جيدة و مرحب بها فالشعب الفلسطيني كباقي الشعوب يرحب بالتنمية و الاستثمار .
و السؤال المطروح هنا: ما الذي دفع الإدارة الأمريكية لمثل هذا الاقتراح, و هل الفلسطيني الطرف المستفيد في نهاية المطاف. قد يناقش البعض بأن عمليات البناء بحد ذاتها تعد مصدر دخل جديد لمئات من العائلات الفلسطينية, و مساهمة في مواجهة مشكلة البطالة المستفحلة في الأراضي الفلسطينية. إلا أن هذا كله لا ينفي و جود مصلحة إسرائيلية كبرى و على مستوى اشمل, وخاصة ان هذا الاقتراح يأتي استكمالاً لخطة أعظم تشمل إنشاء منطقة صناعية /تجارية / زراعية في منطقة غور الأردن تهدف لجلب الاستثمارات إليها التي من ضمنها الاستثمارات الإسرائيلية . و عليه تنفي الحيرة حول الاقتراح الأمريكي لبناء المدينة الفلسطينية و التي ستكون بمثابة نزل للعمال الفلسطينيين الذين سيعملون في المنطقة الصناعية الجديدة.
وبناء على ما تقدم يبرز سؤال ثان و ثالث : ما مدى الاستفادة التي يمكن ان يجنيها الفلسطينيون من المشروع بشكل عام , فعلى سبيل المثال اذا واجه بناء المنطقة الصناعية عقبات وفشل المخطط لاي من الأسباب هل هذا سينطبق على بناء المدينة الجديدة , وهذا يقودنا الى السؤال الثالث وهو من هم المستفيدون الحقيقيون من المناطق الصناعية و تأتي الإجابة على هذا السؤال لاحقاً.
ما يجب أخذه بعين الاعتبار انه منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية في العام 1967 ، عملت بشكل ممنهج لقمع أي محاولة لتنمية الاقتصاد الفلسطيني ، كما أنها لم تدخر إي جهد للتأكيد على تبعية الاقتصاد الفلسطيني لها , فكانت و مازالت تسيطر على منافذ الاستيراد والتصدير( المطار ، والميناء ، والحدود البرية) ،و أكثر من 80 ٪ من مساحة الضفة الغربية وحوالي 25 ٪ من غزة. و اكثر من ذلك فقد صادرت إسرائيل مساحات واسعة من الضفة الغربية تحت ذريعة الأمن ،وفي الواقع فإن هذه المناطق تشكل المواقع المحتملة للتوسع العمراني , كما وظفت إسرائيل سياسة مصادرة الأراضي لسرقة الأراضي من أصحابها العرب في المناطق الفلسطينية المحتلة و إعطائها إلى المستوطنين الإسرائيليين الذين يقيمون بشكل غير قانوني فيها ليستثمروها في بناء مناطق صناعية تقتصر على أرباب صناعة إسرائيليين فقط
و على الرغم من استياء الحكومات الأمريكية المتعاقبة لهذه السياسة , إلا أن ذلك لم يفلح في أي وقت من الأوقات في وقف أو تقنين الدعم المالي و العسكري الأمريكي لإسرائيل فما زالت الحكومات الأمريكية على حالها تقول ما لا تفعل و تفعل ما لا تقول.
بعد سنوات من الدعم و التطوير الضمني لعشرات من المستوطنات الإسرائيلية الغير شرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة تأتي الحكومة الأمريكية في هذا الوقت بالذات و تقترح بناء مدينة فلسطينية في الضفة الغربية . ربما هذا يستدعي التفكير في ما يحرك هذا الاتجاه الجديد.
ان مصائر الفلسطينيين و الإسرائيليين متشابكة و تتجاوز القضايا السياسية , فهم يتقاسموا المصالح الاقتصادية بغض النظر عن حقيقة ان اسرائيل لها اليد العليا في هذا المجال, هذا ما يؤمن به الإسرائيليون على الأقل, ولكن في حقيقة الأمر انه وبقدر ما يحتاج العمال الفلسطينيين الى عمل في ظل أوضاع اقتصادية جيدة ومستدامة و ضرورة إيجاد بيئة جذابة للمستثمرين في الأراضي الفلسطينية , فأن اسرائيل في المقابل بحاجة الى كمية كبيرة من العمال ذوي الخبرة و الأجور المعقولة و التي لا يمكن توفرها الا في الضفة الغربية , فالتجارب السابقة كلفت إسرائيل ثمناً باهظاً عندما استبدلوا العمال الفلسطينيين بعمال من بلدان أخرى , فلا التكلفة و لا مستوى الاداء كانت ضمن ما ابتغاه المنتجون الإسرائيليون .
المناطق الصناعية :
تمتلك اسرائيل حالياً 18 منطقة صناعية في اراضي الضفة الغربية المحتلة و رغم ان اسرائيل لا تمتلك الحق في بناء مناطق صناعية في المناطق المحتلة, فهذا يتناقض مع القانون الدولي, (انظر الخارطة).
أن بناء منطقة صناعية و مدينة فلسطينية جديدة ياتيتحت مسمى وذريعة خدمة السكان المحليين و حتى تأخذ السلطة الفلسطينية الفرصة الكافية لتحقيق نمو نوعي لتدعيم دورها سياسياً, ولكن طالما بقيت اسرائيل في الضفة لغربية و بقيت غزة تحت وضع الاحتلال فأن جميع الجهود المبذولة ستذهب أدراج الرياح الا اذا سيطر الفلسطينيون على الأراضي التي تمكنهم من من التنقل بحرية دون أي عقبات إسرائيلية وخاصة الى مناطق مثل المناطق الصناعية . بالاضافة الى ذلك ما لم يكن للشعب الفلسطيني السيطرة على شبكة الطرق و المناطق الصناعية و السيطرة على منافذ الاستيراد والتصدير( المطار، والميناء، والحدود البرية) فأن تلك المناطق الصناعية ستصبح مرتعاً للاحتكار.
أما بالنسبة للسؤال الثاني : من هم المستفيدون الحقيقيون من المناطق الصناعية ؟ فالإجابة بكل بساطة المستوطنات الإسرائيلية مره أخرى . ان التخطيط للمناطق الصناعية في الأراضي الفلسطينية يهدف احتضان الاستثمارات دون قيد وهذا يشملً الاستثمارات الإسرائيلية و التي من ضمنها تلك التي تقع في مستوطنات الضفة الغربية , ان المكسب الإضافي الذي يحصل علية المستثمرون الإسرائيليون بشكل عام و و الصناعات في المستوطنات بشكل خاص في المناطق الصناعية المزمع انشائها في الضفة الغربية هو اانها ستفتح لهم افاق تسويقية جديدة في العالم العربي , حيث ستتخلص صناعات المستوطنات من محاربه بعض الاسواق العالمية و الاسواق العربية لها عند تسويق منتجاتهم في بعض البلدان الأوربية التي تقف بشكل مانع ضد بيع منتجات المستوطنات في بلدانها.
و في النهاية يبقى الاقتراح الأمريكي موضع تساؤلات مادام الإسرائيليون هم سيجنون الجزء الأكبر من الفوائد العائدة من هذة المدينة و المنطقة الصناعية على المدى البعيد أكثر من الفلسطينيين.و تستطيع الولايات المتحدة ان تقوم بما هو أفضل للفلسطينيين بالضغط على اسرائيل للتخلي عن سياسة العقاب الجماعي التي تفرضها على الفلسطينيين من خلال أكثر 550 نوع من الحواجز التي أنشأت في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة و تخفيف القيود الاقتصادية المفروضة على الفلسطينيين من حيث حركة الاستيراد و التصدير. إذا تم تنفيذ هذه الشروط فأن عدد هائل من فلسطيني الشتات المالكين لمنشآت اقتصادية سيأتون إلى الاستثمار كما حاولوا في الماضي ليكونوا جزءً من الاقتصاد الفلسطيني الجديد و تنشيطه لكنهم وجهوا بالعقبات التي حرصت اسرائيل على وضعها في طريقهم , بما في ذلك منع دخولهم والغاء تأشيراتهم.
ان مفهوم اسرائيل في مساعدة الفلسطينيين تقوم على فكرة إثارة حماس من اجل محاربة فتح , وعندما تخرج حماس عن السيطرة تقوم اسرائيل بإعطاء فتح أسلحة لتمكينها من محاربة حماس, اما فيما يتعلق بالولايات المتحدة و مقترحها لبناء مدينة فلسطينية في الضفة الغربيةفبدا ان يعتبر نقطة تحول في سياستها اتجاة الشعب الفلسطيني يمكن أن تصبح أداه مساعدة لتحصين المستوطنات و الاحتلال الإسرائيلي.
ان المفهوم المجرد لبناء المدينة الجديدة يكمن في النظرية القائلة إن انشاء مدينة فلسطينية جديدة في الأراضي المحتلة سيعود بالنفع على الشعب الفلسطيني ، سواء في المدى القريب اوالمدى البعيد. ففي المدى القريب ستوفر فرص عمل و مساكن للفلسطينيين الفقراء ,و اما على المدى البعيد فستساعد على تطوير البنية التحتية و التي من شأنها ان تمهد الطريق لبناء دولة فلسطينية مستقلة و ديمقراطية وذات سيادة. ولكن على صعيد اخر قد تعتبر وسيلة لدفع الحكومة الفلسطينية للرضوخ للمتطلبات الشعبية و الاجتماعية و الاقتصادية و عدم التركيز على الحقوق الوطنية , مع إفساح المجال اسرائيل أخيرا من تطبيع علاقاتها مع باقي بلدان العالم العربي.