ما وراء “دائرة العنف”
يشهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ عقود متغيرات دراماتيكية، حيث يتجاوز العنف الذي تمارسه اسرائيل على الأرض الحدود التقليدية للمواجهات المسلحة ليصبح جزءا من هيكلية عمل الدولة وأجهزتها السياسية والقانونية. ولم يأتي هذا التحول بشكل مفاجئ انما تنامى بشكل تدريجي من “دائرة العنف” إلى “دائرة الإفلات من العقاب”، مع التركيز الذي طرأ على التمكين البنيوي للمستوطنين الإسرائيليين وأثره على مخرجات الساحة السياسة الإسرائيلية الفلسطينية، القانون الدولي، وحقوق الإنسان. هذا وتؤكد الاحداث المتسارعة على الأرض، وكما تشير الأدلة المتوفرة إلى أن مفهوم الإفلات من العقاب عند المستوطنين لم يعد بل ولم يكن نتيجة عارضة للأحداث الجارية، بل أصبح أداة منهجية تستخدم لتعزيز الهيمنة والسيطرة، سواء من قبل دولة الاحتلال أو المستوطنين، مما يعمق الانتهاكات ويكرس التمييز القائم على الأرض والهوية.
في العديد من الخطابات الأكاديمية والدولية، يصور اعتداءات المستوطنون الإسرائيليون تجاه الفلسطينيين في إطار ما يعرف بـ “دائرة العنف، أي سلسلة مستمرة من الاعتداءات التي تشكل جزءا من نمط حياتهم اليومي ونتيجة مباشرة للهيكلية القانونية والسياسية التي صممت لضمان السيطرة الإسرائيلية على الأرض والسكان. “
تشير التقارير الدولية إلى أن “دائرة العنف” هذه ليست مجرد تصاعد عشوائي للعنف، بل هي نتاج سياسات متعمدة ومنهجية تهدف إلى تهميش الفلسطينيين وفرض السيطرة الاستيطانية، وذلك في سياق غياب المساءلة والمحاسبة، حيث أصبح عنف المستوطنين أداة رئيسية لإعادة إنتاج الهيمنة البنيوية، وهو ما يميز الوضع الفلسطيني المحتل عن النزاعات الأخرى حول العالم.
الإفلات من العقاب هو أساس العنف البنيوي
أشارت منظمة العفو الدولية في تقريرها لعام 2021 إلى “فشل إسرائيل المستمر في ضمان المساءلة” عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، والتي يرتكبها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون، بدءا من عمليات القتل غير القانوني والترحيل القسري، وصولا إلى الهجمات العشوائية على المدنيين. وقد أكد مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في عام 2022 أن “غياب المساءلة يكمن في قلب الانتهاكات المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
وتكشف البيانات أن ما يقارب 88% من التحقيقات العسكرية الإسرائيلية المتعلقة بانتهاكات مزعومة في الضفة الغربية وشرق القدس أغلقت دون توجيه اتهامات أو تركت دون حل، وفقا لتقارير إعلامية لعام 2025. يعكس هذا الفشل في احقاق العدالة او بالأحرى النهج المتعمد من التغاضي عن الانتهاكات، بيئة مواتية لمخططات إسرائيل وبيئة قسرية للفلسطينيين تتواصل فيها عمليات التهجير والاستيلاء على الأراضي والانتهاكات الأخرى دون رادع، ما يجعل الإفلات من العقاب أداة منهجية لتكريس الهيمنة الاستيطانية للاحتلال الإسرائيلي.
حركة المستوطنين: من الهامش الأيديولوجي إلى مركز النفوذ السياسي
- أولا: الجذور التاريخية وتحولات الموقع
يمكن تتبع جذور ظاهرة الإفلات من العقاب التي يحظى بها المستوطنون في إسرائيل إلى التحول الجذري الذي شهدته حركة الاستيطان منذ نشأتها. انطلقت هذه الحركة في سبعينيات القرن الماضي كتيار ديني قومي هامشي، يتبنى رؤى عقائدية مستمدة من الصهيونية الدينية، ويعمل على إقامة بؤر استيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عقب حرب عام 1967. في تلك الفترة، كانت المستوطنات تصنف كمشاريع غير قانونية، حتى وفق القانون الإسرائيلي الرسمي، إلا أن دعم الحكومات المتعاقبة، خاصة بعد وصول حزب الليكود إلى السلطة عام 1977، منحها تدريجيا شرعية سياسية ومؤسسية.
هذا التحول من الهامش إلى المركز ترافق مع توسع جغرافي ديموغرافي، فالمستوطنات لم تعد مجرد بؤر معزولة وإنما تحولت إلى تجمعات عمرانية وصناعية متكاملة. وتشير المعطيات الديموغرافية إلى أن نسبة المستوطنين ارتفعت من أقل من 2% من مجموع سكان إسرائيل عام 1989 إلى ما يزيد عن 8% اليوم، موزعين على أكثر من 200 مستوطنة و300 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
- ثانيا: الدمج الأيديولوجي والتأثير السياسي
استطاعت حركة المستوطنين أن تدمج بشكل فعال بين ثلاثة مكونات أساسية: الرواية الدينية المرتكزة على مفهوم “استعادة” الأراضي التوراتية، الرواية القومية التي تقدم المشروع الاستيطاني كامتداد طبيعي لنظام القومية اليهودية، والرواية الأمنية التي تسوق للاستيطان باعتباره حائط صد يحمي حدود الدولة. وبفضل هذا الدمج، تبنت شريحة واسعة من الجمهور الإسرائيلي، بما في ذلك النخب السياسية والعسكرية، تصورات تضفي على المشروع الاستيطاني مشروعية وطنية وتحول دون المساءلة.
تشير البيانات إلى أن أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين يعتقدون بأن الاستيطان يسهم في تعزيز الأمن القومي، ما يعكس عمق الاختراق الذي حققته الأيديولوجيا الاستيطانية داخل المجتمع الإسرائيلي. هذا التموضع الفكري والسياسي ساهم في تحويل حركة المستوطنين إلى قوة مركزية في السياسات الإسرائيلية، بحيث أصبحوا شركاء رئيسيين في صياغة استراتيجيات الدولة، داخليا وخارجيا، وفي التأثير المباشر على السياسات المتعلقة بالأراضي المحتلة والفلسطينيين.
الهيمنة على المؤسسات الحكومية والتوسع الاستراتيجي للاستيطان
- أولا: اختراق بنية الدولة وإعادة تشكيلها من الداخل
نجح المشروع الاستيطاني الصهيوني في التغلغل داخل البنى الأساسية لمؤسسات الدولة الإسرائيلية، بما يشمل الجيش والبرلمان والوزارات السيادية. ولم يعد النشاط الاستيطاني مجرد حركة هامشية أو نتاج ضغط جماعات مصالح، بل تحول إلى مقوم أساسي من مقومات السياسات الرسمية للدولة. ويتجلى ذلك بوضوح في صعود شخصيات سياسية تنتمي إلى التيار الاستيطاني المتطرف، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير، إلى مواقع متقدمة في هرم السلطة. وقد استخدم هؤلاء نفوذهم لإعادة توجيه موارد الدولة، خاصة الميزانيات الحكومية، بهدف تعزيز التوسع الاستيطاني، وتكريس سياسات الحماية القانونية للمستوطنين، وإدارة القمع المنهجي ضد المقاومة الفلسطينية الشعبية، سواء كانت سلمية أو منظمة.
- ثانيا: تحول الاستيطان إلى بنية سياسية راسخة
إن اختراق المستوطنين لمؤسسات الدولة لم يكن مجرد عملية سياسية، بل أدى إلى ترسيخ هيكلي للمشروع الاستيطاني داخل الإطار القانوني والإداري للدولة. فبات الاستيطان، بوصفه بنية مؤسسية، يستند إلى منظومة من التشريعات والسياسات التي تشرعن الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وتفرض أنماطا من الهندسة الديموغرافية تنطوي على تهجير السكان الأصليين وإحلال السكان المستوطنين محلهم. إضافة إلى ذلك، أسهم هذا التحول في تكريس نظام قانوني مزدوج، يمنح المستوطنين امتيازات غير خاضعة للمساءلة، مقابل إخضاع الفلسطينيين لإجراءات تقييدية وقمعية، وهو ما يعمق البعد البنيوي للعنف ويخلق حالة من التطبيع المؤسسي للتمييز والعنصرية.
توثيق العنف الاستيطاني وتماهيه مع عنف الدولة
شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة بين 7 أكتوبر 2023 وأكتوبر 2025 تصعيدا غير مسبوق في مستويات العنف المنهجي الذي تمارسه قوات الاحتلال والمستوطنون بحق السكان المدنيين الفلسطينيين. وفقا لتقرير اللجنة الوطنية لمقاومة الجدار والاستيطان، تم توثيق ما مجموعه 38،359 اعتداء، توزعت بين 31،205 اعتداء نفذتها قوات الاحتلال، و7،154 اعتداء ارتكبها المستوطنون بصورة مباشرة. ومنذ ذلك التاريخ، تم تسجيل أكثر من 2،000 اعتداء إضافي، في دلالة واضحة على استمرار وتيرة العنف المبنى على منظومة فكرية وعمل مشترك بين أجهزة الدولة والعناصر الاستيطانية.
يشير هذا التزايد إلى انهيار تدريجي للحدود التقليدية بين “العنف الرسمي” الذي تمارسه مؤسسات الدولة وبين “العنف غير الرسمي” أو “المدني” الذي ينفذه المستوطنون. فالعنف الاستيطاني، الذي كان ينظر إليه تاريخيا كفعل غير قانوني أو هامشي، أصبح اليوم مكونا بنيويا في منظومة السيطرة الإسرائيلية على الأرض والسكان. هذا التماثل البنيوي بين عنف الدولة وعنف المستوطنين يعزز منظومة الإفلات من العقاب، بينما يضعف أي إمكانية للحصول على حماية قانونية فعلية للفلسطينيين، سواء عبر القضاء المحلي أو الدولي.
التحولات الأيديولوجية وتأثيرها في بنية الحكم
ترتبط هذه الديناميكيات ارتباطا وثيقا بصعود التيارات الدينية الصهيونية المتطرفة، وعلى رأسها “الحردليم”، الذين يمثلون امتدادا للأرثوذكسية القومية المتشددة. هذا التيار، الذي يجمع بين العقائد الدينية المتطرفة والمواقف القومية الراديكالية، أصبح له تأثير مباشر على الخطاب السياسي الإسرائيلي، ولا سيما فيما يتعلق بنفي وجود الفلسطينيين وتجريدهم من حقوقهم الجماعية والفردية. لم يعد هذا الخطاب الأيديولوجي مقصورا على النخب أو الهوامش، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من السياسات العامة وبرامج الأحزاب الحاكمة، وأحد مرتكزات اتخاذ القرار داخل الحكومة الحالية.
في ظل هذا المناخ، يجري تكريس نظام سياسي وقانوني يعمل على شرعنة العنف ومكافأة التوسع غير القانوني. وبذلك، تتحول أدوات السيطرة من مجرد أدوات أمنية رادعة إلى منظومة سياسية وقانونية تدير حياة الفلسطينيين اليومية بكل الادوات والطرق المتاحة. إن هذا التحول يعمق من شروط العنف البنيوي، ويجعل مقاومته أكثر تعقيدا، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، ويستدعي تدخلا متعدد الأبعاد يتجاوز ردود الفعل الشكلية أو التعامل مع العنف كحالات فردية معزولة.
المساءلة مفتاح كسر دائرة الإفلات من العقاب
إن تحليل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لا يمكن أن يقتصر على قراءة الأحداث كوقائع منفصلة أو مواجهات عشوائية، بل يتطلب فهم التحول البنيوي الذي جعل من العنف نظاما قائما بذاته. فقد تم إعادة انتاج هذا العنف من كونه فعلا عشوائيا إلى جزء من منظومة حكم تتسم بتواطؤ مؤسسي وبيئة حاضنة تتبنى ضمنيا مبدا الإفلات من العقاب. هذا التحول جعل من “دائرة العنف” تستشري أكثر وان تصبح حالة مستمرة وان يتحول فيها الاستثناء إلى قاعدة.
وفي هذا السياق، شدد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أواخر عام 2024 على أنه “لا يمكن أن يستمر الإفلات الراسخ من العقاب”. كما ان غياب آليات المساءلة الفعالة لا يجعل من العنف مجرد حالة مؤقتة او نتيجة لظرف استثنائي، بل يحوله إلى أداة منهجية للترهيب والتحكم بالسكان والسيطرة على الأرض. وعليه، فإن غياب التدخلات الجذرية ستبقى هذه الدائرة مستمرة، مما يرسخ معاناة الفلسطينيين، ويحول العنف إلى منظومة حياة.
ما هو المطلوب لتفكيك وكسر دائرة الإفلات من العقاب
لفك هذه الحلقة البنيوية، تقتضي الحاجة تبني مقاربة متعددة المستويات، تشمل:
- المساءلة المستقلة: وهذا يقتضي إنشاء آليات تحقيق فعالة، مستقلة ومحايدة، لضمان عدم الإفلات من العقوبة في حالات انتهاك القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
- وقف الدعم للمستوطنات: تعليق فوري وشامل لجميع أشكال التمويل والمساعدات الحكومية الموجهة للمستوطنات والبؤر الاستيطانية، بما في ذلك البنية التحتية والخدمات الأمنية.
- إصلاح قانوني ومؤسسي: تفكيك الأنظمة القانونية المزدوجة التي تفرض أنظمة قضائية مختلفة على الفلسطينيين والمستوطنين، وإعادة بناء منظومة عدالة تضمن المساواة أمام القانون.
- معالجة العنف البنيوي: مواجهة الجذور العميقة لسياسات التمييز، بما يشمل التهجير القسري، مصادرة الأراضي، والممارسات المؤسسية التي ترسخ أنماط حكم تشبه الفصل العنصري.
الخاتمة
إن استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب لا يعد مجرد تعثر في مسار تحقيق السلام، بل يشكل نتيجة متوقعة لبنية سياسية وقانونية أنشئت أساسا للحفاظ على الهيمنة والسيطرة. ويؤكد التقرير إلى أن أي مقاربة جدية لإرساء العدالة أو تحقيق سلام مستدام تقتضي بالضرورة معالجة الهياكل القانونية والمؤسساتية التي تكرس الانتهاكات وتتيح إعادة إنتاجها. كما يؤكد أن تحقيق المساءلة الحقيقية يستلزم شمول كافة المستويات، بما في ذلك المؤسسات الحكومية والمستوطنين، بوصفهم عناصر متشابكة ضمن منظومة واحدة تسهم في ترسيخ العنف البنيوي وتجذر معه واقع الاحتلال.
اعداد:












