افتتحت الدورة الشتوية للكنيست الإسرائيلي وسط تصاعد التوترات، وتميزت بهجوم حاد من الحكومة على القضاء. في كلمته الافتتاحية، انتقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو القضاء مباشرة ودافع عن العمليات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في غزة، مجددا تعهده بـ “القضاء على حماس”. من جانبه، اتهم زعيم المعارضة يائير لابيد نتنياهو بتحويل إسرائيل إلى “دولة تابعة لواشنطن”، مسلطا الضوء على الانقسامات السياسية العميقة على المستوى الوطني.
تتزامن هذه الدورة أيضا مع مرحلة حاسمة في استراتيجية الضم الواقعية لإسرائيل في الضفة الغربية المحتلة. تسعى الفصائل اليمينية إلى استخدام التشريعات كأداة إقليمية وسياسية في الوقت نفسه، حيث تدفع مشاريع قوانين تهدف إلى فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات والمناطق الاستراتيجية المهمة. تتقاطع هذه الجهود التشريعية مع صراعات سياسية أوسع، إذ تواجه الحكومة تفككا بعد انسحاب الأحزاب الحريدية (شاس ويهودية التوراة المتحدة) على خلفية نزاعات التجنيد، مما يترك نتنياهو، “لأول مرة منذ تشكيل الائتلاف الحالي”، بدون أغلبية برلمانية مستقرة. تعكس الأبعاد المزدوجة لسياسة الضم، التوسع الإقليمي وترسيخ السلطة الداخلية، تقاطع التطرف الأيديولوجي مع القيود الهيكلية.
بينما يهيمن موضوع الضم على الخطاب العام، يظل تنفيذه العملي محدودا بالضغط الدولي، والمخاطر الاقتصادية، وهشاشة الائتلاف الحاكم. وتزيد المناورات التشريعية من التوترات، إذ تهدد بتجاوز العقوبات الدولية الموجهة ضد نشاط المستوطنين المتطرفين، مما يبرز العلاقة المعقدة بين السياسة الداخلية، والمتطلبات الأمنية، والاعتبارات الجيوسياسية.
في السياق: الانقسام السياسي وعدم اليقين الاستراتيجي
عادت الكنيست للانعقاد في ظل هشاشة سياسية شديدة. ترك انسحاب شاس ويهودية التوراة المتحدة المناصب الحكومية على خلفية قانون التجنيد الحريدي توازن القوى بين الائتلاف والمعارضة عند 60–60. هذا الجمود يمنع تمرير تشريعات مهمة، بما في ذلك قوانين السيادة، دون إعادة دمج الأحزاب الحريدية في الحكومة.
في ظل هذا الفراغ، تستفيد الفصائل اليمينية المتطرفة من الضم كأداة رمزية وتحفيزية، ضاغطة على الحكومة لتقنين دمج المستوطنات والمناطق الرئيسية ضمن إسرائيل. يعرض الضم كأداة سياسية داخلية لتلبية مطالب القواعد الوطنية، وكإجراء استباقي استراتيجي ردا على الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية.
الدفع التشريعي نحو الضم: القوانين، الجهات الفاعلة، والأهداف الأيديولوجية
تم تقديم عدة مشاريع قوانين مجددا بهدف صريح لفرض القانون والسيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية، معبرة عن الطموح الأيديولوجي والنية السياسية:
- مشاريع قوانين الضم الكامل: تقترح ليمور سون حر-ميليك من حزب (قوة يهودية) وأفي معوز من حزب (نوم) توسيع الولاية المدنية الإسرائيلية لتشمل جميع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، معتبرة إياها جزءا لا يتجزأ من الدولة الإسرائيلية ذات السيادة. تضع هذه المقترحات الضم في إطار فرض أيديولوجي غير قابل للتفاوض، ممهدة الطريق لنظام يعزز سيطرة المستوطنين ويؤسس لتهجير الفلسطينيين.
- مشاريع قوانين الضم المستهدف: قدم أفغادور ليبرمان (إسرائيل بيتنا) تشريعا يستهدف مستوطنة معاليه أدوميم باعتبارها المرحلة الأولى من الخطط الاشمل لاستيعاب مستوطنين جدد في مناطق الضم في أراضي الضفة الغربية. ومن جهة أخرى، يواصل بيتسل سموتريتش الدعوة لضم ما يصل إلى 82% من الضفة الغربية، مؤطرا ذلك كإجراء مضاد للاعتراف الغربي بالدولة الفلسطينية.
على الرغم من أن اللجنة الوزارية للتشريع أدرجت هذه القوانين على جدول أعمالها، فإن حذر نتنياهو السياسي والمعارضة الصريحة من الولايات المتحدة يرجح ان يدفع الى تأجيل القوانين بشكل رسمي الى وقت أكثر ملائمة لذلك. وعليه، فان الهدف المرحلي لطرح هذه القوانين يأتي في كونه أكثر كأداة لتوجيه واستعراض رسائل سياسية استراتيجية للناخبين اليمينيين، بدلا من كونها أدوات قانونية لترجمة فحوى القوانين الى أفعال مباشرة وفورية على الأرض.
المعارضة الأمريكية وحسابات نتنياهو الاستراتيجية
تواجه جهود الضم قيودا كبيرة على الصعيدين الدولي والداخلي:
- الموقف الأمريكي: عارض الرئيس دونالد ترامب ضم الضفة الغربية بشكل صريح، مما وضع طموحات إسرائيل الإقليمية تحت رقابة دبلوماسية دقيقة مع احتمالات لتبعات سلبية على إسرائيل في حال التحركات الأحادية.
- معضلة نتنياهو: المضي قدما في مسعى الضم ينطوي على مخاطر كبيرة على إسرائيل وعليه شخصيا، بما في ذلك تعميق الخلافات مع واشنطن، وخفض التصنيف الائتماني، وتصعيد محتمل إقليميا. وفي المقابل، فان عدم التحرك نحو الضم من شانه ان يؤدي إلى نفور المتشددين اليمينيين في حكومته، بما في ذلك إيتمار بن غفير وبيتسل سموتريتش، الذين يعتبرون الضم أحد الأهداف الأيديولوجية الرئيسية لانضمامهم للائتلاف منذ البداية.
- تفاعلات داخل الائتلاف: اتهم منتقدين داخل الائتلاف، نتنياهو بالجبن والاذعان السياسي، وهو ما يضع الأخير في معضلة سياسية، حيث يتطلب منه الموازنة بين الحلفاء الأيديولوجيين في الائتلاف وما بين الضغوط الدولية المتزايدة. وبناء عليه، ومع كون المشاريع التشريعية قد أصبحت استعراضية ورمزية أكثر من ان تكون قابلة للتنفيذ الفوري، فان الحديث بخطاب الضم قد أصبح مجرد أداة لتحريك واستقطاب الناخبين في ظل إمكانية سقوط الحكومة الحالية واجراء انتخابات مبكرة، او حتى لو أجريت في موعدها المقرر في 27 تشرين الأول 2026.
الأجندة الانتخابية الثانوية الاخرى: التحايل على العقوبات الدولية عبر التشريع المحلي
سياق مشروع القانون التشريعي لمنع العقوبات عن المستوطنين:
بالتوازي مع جهود الائتلاف فيما بتعلق بالضم، تراجع اللجنة الوزارية للتشريع مشروع قانون تقدم به حزب “قوة يهودية” يطالب فيه البنوك الإسرائيلية بمواصلة تقديم الخدمات المصرفية للمستوطنين الإسرائيليين الخاضعين لعقوبات الامريكية والاوروبية. حيث يحظر مشروع القانون على المؤسسات المالية الاسرائيلية رفض تقديم الخدمات للأفراد الإسرائيليين المستهدفين بعقوبات أمريكية أو أوروبية لأسباب سياسية، إلا إذا أعلنت السلطات الإسرائيلية صراحة أن هذا الامتثال سيشكل انتهاكا قانونيا داخل إسرائيل، وهو ما لم تفعله الأخيرة.
الاعتبارات الاقتصادية والبعد السياسي للقانون
حذر القائمين على السياسات الاقتصادية، بما في ذلك بنك إسرائيل وكبار المستشارين الحكوميين، من أن تمرير هذا القانون قد يعرض إسرائيل لعواقب اقتصادية جسيمة، تشمل منع استعمال نظام (SWIFT)، وتقييد الوصول للعملة الأجنبية، بالإضافة الى إمكانية خفض التصنيف الائتماني السيادي للقطاع المصرفي الاسرائيلي. وقد توافق الخبراء على أن مشروع القانون يشكل خطرا كبيرا على النظام المالي الإسرائيلي، بينما يخدم مجموعة صغيرة من المستوطنين المتطرفين.
من ناحية أخرى، يفسر المحللون على نطاق واسع طرح هذا المشروع باعتباره محاولة أيديولوجية لحماية الناخبين المتشددين وتقويض آليات الرقابة الدولية تحت ستار القانون المحلي. وبذلك يجسد القانون المطروح بصيغته استخدام التشريع كأداة سياسية لحماية قواعد التصويت المتشددة، مع تقليل أو تجاهل التبعيات الاقتصادية والدبلوماسية على الصعيد الوطني الأوسع.
الخاتمة
تكشف الدورة الشتوية للكنيست عام 2025 أن الضم قد تحول من مشروع إقليمي بحت إلى محور مركزي للمناورات السياسية، والتحفيز الأيديولوجي، ونافذة مهمة لفهم كيفية تحويل التطرف الأيديولوجي إلى “مسرح تشريعي”، مما يعكس الضغوط والحسابات الأوسع التي تشكل، بل وتحدد، سياسات إسرائيل المستمرة في الأراضي المحتلة، حيث تستمر الفصائل اليمينية المتطرفة في دفع مشاريع قوانين تؤكد السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، مستخدمة التشريع كوسيلة لتعزيز الالتزامات الأيديولوجية وتحريك قواعدها الانتخابية.
ومع ذلك، ورغم ان التصعيد الخطابي يصور الضم كأمر طبيعي وحاصل لا محال، فان لجام القيود الدولية والتهديد بالعقوبات الاقتصادية، وأيضا هشاشة الائتلاف الداخلي تجعل من امكانية تنفيذ الضم الفعلي غير مرجح في الوقت الراهن، بينما يستمر اليمين المتطرف في استخدام التشريعات لتعزيز سيطرته الرمزية، وتحريك قواعده الانتخابية، وضمان حضور أيديولوجيته في النقاش العام على المستوى الوطني الاسرائيلي والدولي.
اعداد:










