مقدمة
في شمال غرب نابلس، تقف بلدة سبسطية كواحدة من أبرز الشواهد التاريخية في فلسطين، إذ تعود جذورها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وتضم آثارا رومانية وبيزنطية وإسلامية ما زالت قائمة حتى اليوم، من بينها المسرح الروماني، الأعمدة الحجرية، القصور القديمة، والجامع الكبير الذي يعرف بمسجد النبي يحيى. هذا الإرث الغني جعل البلدة مرشحة للانضمام إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو، غير أن الاحتلال الإسرائيلي حال دون ذلك عبر سلسلة من الممارسات الممنهجة.
خلال السنوات الأخيرة، تحولت سبسطية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين سكانها الفلسطينيين والمستوطنين المدعومين من “الإدارة المدنية” التابعة لجيش الاحتلال. إذ وثقت منظمات حقوقية ووسائل إعلام محلية ودولية اعتداءات متكررة شملت اقتحامات جماعية ينفذها المستوطنون، رفع الأعلام الإسرائيلية فوق المواقع الأثرية، ومنع الفعاليات الثقافية الفلسطينية التي تنظم لإبراز الهوية الوطنية للبلدة. كما عمدت سلطات الاحتلال إلى إجراء حفريات أثرية و”أعمال ترميم” بذرائع سياحية، لكنها في جوهرها محاولات لإعادة صياغة رواية تاريخية تزعم وجود جذور يهودية حصرية في المنطقة.
ويشير أهالي البلدة إلى أن هذه الانتهاكات ليست مجرد أعمال فردية، بل تأتي في إطار سياسة رسمية تهدف إلى دمج سبسطية ضمن ما يسمى بـ”المسار التوراتي”، الذي يربط بين مواقع أثرية متعددة في الضفة الغربية تحت سيطرة الاحتلال. وبهذا، تسعى إسرائيل إلى سلخ المكان من عمقه الفلسطيني، وتحويله إلى مقصد سياحي استيطاني يخدم روايتها السياسية.
المفارقة أن ما يتعرض له الموقع الأثري في سبسطية يتقاطع مع سياسات التوسع الاستيطاني التي تشهدها مناطق أخرى في الضفة الغربية، مثل إقامة مستوطنة جديدة في قلب الخليل (H1) ففي الحالتين، يعتمد الاحتلال على أدوات متعددة من السيطرة المباشرة على الأرض، مرورا بالحفريات الأثرية الموجهة، وصولا إلى تغيير الطابع الديمغرافي والاجتماعي. هذه السياسة المزدوجة تظهر أن الاستهداف الإسرائيلي لا يقتصر على الحاضر السياسي والجغرافي للفلسطينيين، بل يطال أيضا ذاكرتهم التاريخية وروايتهم الحضارية.
مشروع تهويد سبسطية: البدايات مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة
منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو في كانون الأول 2022، تشهد بلدة سبسطية، شمال غرب نابلس، هجمة استيطانية ممنهجة تستهدف هويتها التاريخية والأثرية. فالموقع الذي يعد أحد أقدم المدن الكنعانية والرومانية في فلسطين، تحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين الرواية الفلسطينية الأصيلة التي تؤكد على عراقة البلدة وهويتها العربية، وبين محاولات إسرائيل المتسارعة لفرض رواية توراتية مزعومة. بدأت هذه الهجمة بخطوات مدروسة للسيطرة على الموقع الأثري، مرورا بإنشاء طرق التفافية استيطانية، ووصولا إلى مشاريع تهويدية واسعة تحمل عناوين “تطوير السياحة” و”الحفاظ على التراث اليهودي”، بينما جوهرها هو تغيير الطابع التاريخي وفرض السيادة الإسرائيلية على البلدة.
الطرق والبنية التحتية الاستيطانية
من أبرز ملامح التوسع الاستيطاني في سبسطية بدء أعمال شق طريق التفافي يخترق أراضي البلدة الزراعية، ويؤدي عمليا إلى تخريب أجزاء من الموقع الأثري الغني بالأعمدة الرومانية والمسرح التاريخي. ورغم أن إسرائيل تبرر هذه المشاريع بأنها لخدمة حركة المستوطنين، إلا أن أهدافها الحقيقية تكمن في تعزيز السيطرة الميدانية على المواقع الأثرية الفلسطينية وضمها بشكل تدريجي، بما يربطها إداريا وجغرافيا بالمستوطنات المحيطة، مثل مستوطنة “شافي شمرون”.
مشاريع “التطوير” الاستيطاني
شهد عام 2023 قفزة نوعية في التمويل الحكومي لمشاريع التهويد في سبسطية. ففي أيار، صادقت الحكومة الإسرائيلية على استثمار 29 مليون شيكل لتطوير الموقع، أعقبها في تموز تخصيص 32 مليون شيكل إضافية في إطار مشاريع تقع بمعظمها في المناطق المصنفة (ج). ومع مطلع عام 2025، تم إطلاق مشروع “متنزه السامرة الوطني”، تحت ذريعة الحفاظ على “التراث اليهودي”، مع رصد ميزانية جديدة تجاوزت 32 مليون شيكل. إلا أن المراقبين يؤكدون أن الهدف الحقيقي لهذه المشاريع ليس الحفاظ على التراث، وإنما فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الموقع وإعادة صياغة هويته بما يتماشى مع الرواية التوراتية، في مسعى واضح لطمس الوجود الفلسطيني.
سياسات السيطرة العسكرية والقانونية
إلى جانب المشاريع الميدانية، صعدت إسرائيل من سياساتها العسكرية والقانونية. ففي تموز 2024، تقدم أعضاء في الكنيست بمشروع قانون يهدف إلى ضم الآثار في الضفة الغربية إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، ما يعني سحب الصلاحيات من وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، وإخضاع المواقع الأثرية بشكل مباشر للإدارة الإسرائيلية. كما استولت قوات الاحتلال على نحو 1300 متر مربع من أراضي سبسطية، لإقامة ثكنة عسكرية تطل على أبرز المعالم الأثرية مثل معبد أغسطس وقصر عمري، في خطوة تكشف أن المشروع ليس ثقافيا أو سياحيا بقدر ما هو أمني واستيطاني بالدرجة الأولى.
انعكاسات مباشرة على البلدة وسكانها
لم تتوقف انعكاسات مشاريع التهويد الإسرائيلية على سبسطية عند حدود الموقع الأثري فحسب، بل طالت الحياة اليومية للسكان والاقتصاد المحلي برمته. فمنذ مطلع عام 2023، تشهد البلدة اقتحامات شبه يومية من قبل المستوطنين بحماية قوات الاحتلال، تتخللها اعتداءات لفظية وجسدية واستفزازات متعمدة داخل الساحة الأثرية وفي محيط البلدة. وقد أدى ذلك إلى تراجع كبير في أعداد الزوار الأجانب والعرب، وهو ما انعكس مباشرة على مصادر الدخل الأساسية لعشرات العائلات الفلسطينية التي تعتمد على السياحة كمورد رئيسي للرزق.
إلى جانب ذلك، يتعرض الموروث الثقافي في سبسطية، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من خمسة آلاف عام ويشمل معابد رومانية وبيزنطية وقصورا ملكية لعملية استهداف ممنهجة، إذ تسعى إسرائيل لطمس الهوية الفلسطينية والعربية للمكان واستبدالها برواية توراتية أحادية. هذا الاستهداف يتعارض بوضوح مع القانون الدولي، لا سيما اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة (1954)، واتفاقية جنيف الرابعة (1949) التي تحظر على قوة الاحتلال المساس بالتراث الثقافي للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
سبسطية: التاريخ والحضارة
× عبر العصور
تشكل سبسطية إحدى أقدم الحواضر الفلسطينية، إذ تعود آثارها الأولى إلى العصر البرونزي حوالي العام 3200 ق.م، ما يجعلها شاهدة على أكثر من خمسة آلاف عام من التاريخ المتواصل. تعاقبت عليها حضارات متعددة؛ فقد خضعت لحكم الآشوريين ثم الفرس، قبل أن تصبح في العهد الروماني مركزا بارزا، حيث أطلق عليها الملك هيرودس عام 30 ق.م اسم “سبسطي” أي “المبجلة”.
في الحقبة البيزنطية، ازدادت مكانتها الدينية لارتباطها بوجود قبر النبي يحيى (يوحنا المعمدان)، الذي جعلها مقصدا للحجاج المسيحيين من مختلف أصقاع العالم. ومع الفتح الإسلامي، ولا سيما بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي عام 1187م، عادت البلدة إلى الحكم الإسلامي، وتم بناء مسجد على مقام النبي يحيى، ليظل حتى اليوم أحد أهم معالمها الدينية.
× أبرز المعالم الأثرية
تزخر سبسطية بكنوز أثرية نادرة تجسد عصورا متعاقبة من الحضارات الإنسانية. ومن أبرز هذه المعالم: المقبرة الرومانية وضريح النبي يحيى ومسجده، كاتدرائية يوحنا المعمدان، قصر الكايد، وساحة البازيليكا التي تعكس عظمة العمارة الرومانية. كما تحتضن القصر الملكي، والبرج الهيلينستي، ومعبد أغسطس، والمسرح الروماني، وشارع الأعمدة الذي يعد من أوسع الشوارع الأثرية في فلسطين.
ورغم الثراء والتنوع بالآثار في الموقع الحالي، تشير التقديرات الأثرية إلى أن نحو 90% من آثار البلدة لا تزال مطمورة تحت الأرض وتحتاج إلى أعمال تنقيب علمي ومنهجي. هذا يجعل سبسطية من أكبر الكنوز الأثرية غير المكتشفة في المنطقة، ويؤكد أهميتها ليس فقط كتراث فلسطيني بل كإرث إنساني عالمي يستوجب الحماية والصون.
سبسطية اليوم: معركة الذاكرة
لم يعد الصراع في سبسطية مقتصرا على الاقتحامات اليومية لجنود الاحتلال والمستوطنين أو الاعتداءات الجسدية التي تطال الأهالي والزوار، بل باتت البلدة تعيش معركة أخطر تتعلق بالرواية والذاكرة والحق في التاريخ. تعمل سلطات الاحتلال على فرض روايتها التاريخية عبر سياسات ممنهجة تشمل إعادة التسمية، الترميم الموجه، وتغيير ملامح المعالم الأثرية، بهدف إدماج سبسطية ضمن “المسار التوراتي”، وتحويلها إلى رمز استيطاني يخدم المشروع الإسرائيلي، بدل أن تبقى شاهدا حيا على عمق التاريخ الفلسطيني الممتد منذ آلاف السنين.
دعوة لإنقاذ آثار سبسطية
إن حماية سبسطية ليست مسؤولية المؤسسات الأثرية فحسب، بل هي مسؤولية جماعية وفردية تتطلب جهدا فلسطينيا ودوليا متواصلا، وهو الامر الذي يتطلب:
- تكثيف توثيق الانتهاكات والاعتداءات والنداءات الدولية للضغط من أجل حماية الموقع من التهويد والاستيطان.
- تعزيز الوعي المجتمعي، خاصة بين الأجيال الشابة، بأهمية حماية التاريخ والذاكرة الوطنية.
- إدراك أن سبسطية ليست حالة معزولة، بل جزء من مخطط استيطاني أوسع يشمل مواقع مثل بتير والولجة في بيت لحم، البلدة القديمة في الخليل، القدس، وأحياء مثل الشيخ جراح وسلوان.
إن معركة سبسطية هي معركة على الهوية والرواية والوجود، وحمايتها تعني الدفاع عن الذاكرة الفلسطينية المتجذرة في الأرض والتاريخ.
اعداد:
معهد الابحاث التطبيقية – القدس ( أريج)
