مقدمة
منذ عقود طويلة، شكل مشروع البناء الاستيطاني في المنطقة المعروفة بـ (E1) شرق القدس، بين مستوطنة “معاليه أدوميم” والقدس، أحد أخطر المشاريع الإسرائيلية وأكثرها جدلا. هذا المشروع، الذي ظل مؤجلا على مدار عقود بفعل الضغوط الدولية، عاد اليوم بقوة إلى الطاولة مع إصرار الحكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو، وبدعم مباشر من وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
ينظر إلى هذا المشروع على نطاق واسع على أنه الضربة القاضية لحل الدولتين، كونه لا يشكل مجرد توسع استيطاني إضافي، بل إعادة صياغة كاملة للخريطة الديموغرافية والجغرافية للضفة الغربية، بما يجعل أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا مستحيلا.
جوهر المشروع
ينص مخطط (E1) على بناء 3401 وحدة استيطانية جديدة في الممر الاستراتيجي الفاصل بين القدس الشرقية ومستوطنة “معاليه أدوميم”. وبذلك، سيؤدي المشروع إلى:
- دمج القدس الشرقية بـ “معاليه أدوميم”، وتحويلهما إلى كتلة عمرانية واحدة.
- قطع التواصل الجغرافي الفلسطيني بين شمال الضفة الغربية (رام الله) وجنوبها (بيت لحم والخليل).
- شل إمكانية تطوير محور حضري فلسطيني متصل يربط رام الله والقدس وبيت لحم، وهو المحور الذي يمثل العمود الفقري لأي دولة فلسطينية مستقبلية.
هذا لم يقتصر إعلان سموتريتش على مشروع (E1)، بل شمل أيضا بناء 3515 وحدة استيطانية في حي “تسيبور ميدبار”، بهدف ربط “معاليه أدوميم” بمناطقها الصناعية الشرقية.
إن هذه النتائج ليست عرضية، بل جزء من تصميم استراتيجي إسرائيلي يرمي إلى تفتيت الضفة الغربية إلى جيوب معزولة ومقطعة الأوصال، تخضع جميعها للسيطرة الأمنية الإسرائيلية المطلقة.
ورغم أن الخطة يجب أن تمر عبر مسار التخطيط الإسرائيلي الرسمي (جلسات الاعتراضات، لجان التخطيط، المجلس الأعلى للتنظيم والبناء)، إلا أن تصريحات سموتريتش تكشف أن المشروع يجري التعامل معه كجزء من سياسة “السيادة بحكم الأمر الواقع” في الضفة الغربية. فالحكومة الإسرائيلية لا ترى في الإجراءات البيروقراطية سوى خطوات شكلية، حيث باتت النية السياسية والموارد المالية مرصودة لإنجازه. فقد خصص مجلس الوزراء مؤخرا 335 مليون شيكل لمشروع طرق بهدف تسهيل البناء. كما بدأت شركة المياه الوطنية الاسرائيلية “ميكوروت” بتهيئة البنية التحتية لشبكة المياه اتشمل المشروع الجديد. وعليه، يمكن اعتبار هذه الإجراءات بمثابة مؤشرات تعكس خطوات عملية تشير أن المشروع قد دخل مرحلة التنفيذ العملي، لا مجرد التخطيط.
تاريخ مخطط ال (E1)
تعود فكرة طرح مشروع (E1) لأول مرة الى تسعينيات، لكنه أجل بسبب الاعتراضات الأمريكية والأوروبية. وفي العام 2012 أعاد نتنياهو طرحه ردا على حصول فلسطين على صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة. وفي العام 2020 تم اعادة احياء المشروع مجددا ضمن رؤية “صفقة القرن”. وفي الأعوام 2024-2025 عاد المشروع بقوة في ظل وجود حكومة يمينية متطرفة ترى في الاستيطان والضم العلني هدفا استراتيجيا غير قابل للتفاوض.
الابعاد السياسة والجغرافية للمشروع
جاءت مساعي إحياء خطة (E1) في منحنى لا يمكن عزله عن التطورات الإقليمية والدولية، حيث استغلت إسرائيل الحرب على غزة كغطاء سياسي وإعلامي لتنفيذ مخططات في الضفة بعيدا عن أعين المجتمع الدولي كما وظفت انشغال العالم بالأزمات الدولية الاخرى (أوكرانيا وغيرها) الامر الذي وفر لإسرائيل مساحة للمناورة دون ضغوط جدية. من جهة أخرى، لم تشكل التحولات السياسة الأمريكية والأوروبية أي تأثير ملموس على سياسة وخطط إسرائيل، حيث أصبح الموقف أكثر هشاشة في مواجهة الاستيطان، مكتفيا بالبيانات التحذيرية دون إجراءات عقابية.
الأثر على حل الدولتين
إن مشروع (E1) يحمل في طياته أثرا مباشرا وحاسما على مستقبل حل الدولتين، إذ يغلق فعليا الباب أمام أي مفاوضات سياسية جادة يمكن أن تؤدي إلى تسوية عادلة ودائمة. فالمخطط يعيد تشكيل الجغرافيا الفلسطينية في الضفة الغربية بطريقة تقطع أوصالها، محولا إياها إلى كانتونات منفصلة ومعزولة أشبه بجزر سكانية لا رابط بينها، الأمر الذي يقوض وحدة الإقليم الفلسطيني، ويجعل أي كيان ناشئ مجرد تجمعات متناثرة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. الأكثر خطورة أن المشروع يستهدف قلب المعادلة الجيوسياسية في القدس، حيث ينسف إمكانية قيام عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية من خلال تطويقها بالمستوطنات وعزلها عن امتدادها الطبيعي في الضفة. بهذا الشكل، لا يشكل مشروع (E1) مجرد خطة عمرانية، بل يعد تجسيدا لسياسة الضم الزاحف التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إذ يرسخ واقعا استيطانيا لا رجعة فيه، ويدفع الصراع بعيدا عن أي حلول تفاوضية نحو تكريس نظام فصل عنصري بحكم الأمر الواقع.
وللإجمال
إحياء مشروع (E1) في هذا التوقيت لا يعكس مجرد قرار تخطيطي عابر، بل هو مناورة سياسية تسعى إلى فرض وقائع ميدانية تجعل من الضفة الغربية منطقة ملحقة بالسيادة الإسرائيلية، لا أرضا قابلة للتفاوض.
إن حكومة نتنياهو -سموتريتش -بن غفير، إذ توجه ضربة حاسمة لحل الدولتين، من خلال سياسة “الحسم الاستيطاني” وتفرضه أمرا واقعا، الامر الذي يجعل من مشروع (E1) ليس مجرد ملف استيطاني آخر، بل انعطافة خطيرة في مسار الصراع، فإنها أيضا تؤذن في ذلك مرحلة تحمل في طياتها ملامح حقبة جديدة من الضم الصريح، ودفن أي أمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة.
اعداد: