مقدمة:
منذ احتلالها للضفة الغربية عام 1967، تنتهج إسرائيل سياسة طويلة الأمد تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في المناطق المصنفة “ج”، التي تشكل ما نسبته 61% من الضفة الغربية. وتحت ذرائع متعددة تتراوح بين “تحسين حياة السكان” و”ضرورات أمنية” أو “بيئية”، تسعى سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى السيطرة الكاملة على هذه المناطق عبر أدوات قانونية وعسكرية، تسهم مجتمعة في خلق واقع قسري يدفع الفلسطينيين إلى الرحيل.
السياق العام:
تحتوي المنطقة “ج” على مئات التجمعات السكانية الفلسطينية، التي تعتمد بشكل رئيسي على الزراعة وتربية الأغنام. وبدلا من تطوير هذه المجتمعات أو دعمها، تتعرض لتضييقيات صارمة تشمل منع البناء، وحرمان السكان من البنية التحتية الأساسية كالكهرباء والماء والطرق، وصولا إلى حرمانهم من التعليم والرعاية الصحية. تعمل إسرائيل على فرض قيود عسكرية مشددة في هذه المناطق، من خلال الإعلان عن مساحات شاسعة كمناطق تدريب عسكري أو كمحميات طبيعية أو أراضي دولة، وهي تصنيفات تتيح للسلطات الإسرائيلية تقييد حرية حركة الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم.
المنظومة القانونية كأداة للتهجير:
وظفت “الإدارة المدنية” التابعة لجيش الاحتلال أدوات قانونية جديدة تسمح بالهدم الفوري لأي بناء فلسطيني بحجة عدم الترخيص، علما بأن الحصول على الترخيص في المناطق “ج” يعد شبه مستحيل. كما يعد الامتناع المتعمد من قبل الإدارة المدنية الاسرائيلية عن إصدار المخططات الهيكلية للقرى وسيلة لتكريس الواقع غير القانوني للبناء، وبالتالي تمهيد الطريق للهدم ورفض طلبات التطوير. في هذا السياق، تم هدم نحو 7,000 منزل ومنشأة فلسطينية في العقد الأخير وحده في المنطقة “ج”، في انتهاك صارخ للمادة (53) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التدمير واسع النطاق للممتلكات في الأراضي المحتلة.
الاستيطان كجوهر السياسات الإسرائيلية:
في موازاة تقويض الحياة الفلسطينية في المنطقة “ج”، تسارع إسرائيل في التوسع الاستيطاني. يتجلى هذا في إقامة البؤر الاستيطانية العشوائية وتوفير الحماية العسكرية لها، وتحويلها تدريجيًا إلى مستوطنات رسمية. وقد سُجّل منذ أكتوبر 2023 إقامة نحو 70 بؤرة جديدة، مما يعكس وجود دعم سياسي واضح لهذا التوجه.
جنوب الخليل ومسافر يطا نموذجًا:
تمثل منطقة مسافر يطا في جنوب الخليل إحدى أكثر المناطق استهدافا بسياسات التهجير. حيث يسكن قرابة 4000 فلسطيني في نحو 30 تجمعا بدويا مهددا بالاقتلاع، بحجة أن المنطقة مخصصة للتدريب العسكري (منطقة إطلاق نار رقم 918). وقد سبق أن رحل الجيش الإسرائيلي السكان في عام 1999، قبل أن تسمح المحكمة الاسرائيلية بعودتهم مؤقتا. إلا أن خطر الترحيل ما زال قائمًا بانتظار الحسم القضائي.
قرى وتجمعات مسافر يطا | ||||
سادة الثعلة | خشم الكرم | تجمع ماعين | المركز | سمرة |
الجوايا | عرب الزويديين | أم طوبا | جنبة | المجاز |
مغاير العبيد | النجادة | خربة صارورة | سوسيا | التبان |
صفي التحتا | أم الخير | التواني | الدقيقة | الفخيت |
صفي الفوقا | بئر العد | الحمرة | خشم الدرج | حلاوة |
خلة الضبع | شعب البطن | قواويس | خربة المقفرة | الركيز |
تعاني هذه التجمعات من حرمان تام من البنية التحتية الأساسية، فيما ترفض سلطات الاحتلال تقديم أي خدمات أو الاعتراف بوجودها القانوني. وتمنع معظم هذه القرى من تطوير مخططات هيكلية، في مقابل رعاية ودعم واضحين للمستوطنات المجاورة.
الاعتداءات الاستيطانية وأدوات العنف:
شهدت السنوات الأخيرة تصاعدا ملحوظا في اعتداءات المستوطنين على السكان الفلسطينيين في المنطقة “ج”، والتي لم تعد تقتصر على التخريب أو الترويع، بل امتدت إلى القتل. مثال ذلك ما جرى في قرية “أم الخير” بمسافر يطا، حيث أطلق مستوطن النار على المواطن عودة الهذالين فأرداه شهيدا أثناء تصدي الأهالي لعملية تجريف إسرائيلية لصالح المستوطنين. وقد أطلقت المحكمة الإسرائيلية سراح المستوطن المعتدي مع وضعه تحت الإقامة الجبرية، رغم سجله المليء بالاعتداءات.
الشهيد عودة الهذالين هو الضحية الـ29 من الفلسطينيين الذين قتلوا برصاص المستوطنين في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر 2023، في مؤشر خطير على تغول المستوطنين وتواطؤ النظام القضائي الإسرائيلي معهم.
ما يحدث في المنطقة “ج” لا يمكن النظر إليه كأحداث معزولة، بل كسياسة ممنهجة تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، تمهيدا لضمها الفعلي ثم القانوني ضمن ترتيبات مستقبلية تفرضها إسرائيل. إن حرمان الفلسطينيين من حق التطوير، وفرض واقع معيشي خانق، وهدم البيوت والمنشآت، وتفشي العنف الاستيطاني، كلها أدوات في معركة السيطرة الجغرافية والديمغرافية.
وعليه، فان المطلوب:
اولا: على المستوى الوطني الفلسطيني:
- تعزيز الحضور المؤسساتي الفلسطيني الرسمي في المنطقة “ج”، لا سيما في المناطق المهددة بالتهجير مثل مسافر يطا، عبر دعم الهيئات المحلية وتمكينها من تقديم الخدمات.
- توسيع عمل حملات التوثيق والاعلام لكشف الانتهاكات وعرضها بشكل استراتيجي للرأي العام العالمي.
- تطوير استراتيجيات صمود مجتمعي تشمل مشاريع بنى تحتية (مؤقتة)، وسبل دعم الزراعة، والتعليم المجتمعي، والرعاية الصحية.
ثانيا: على المستوى الدولي:
- دعوة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجهات الحقوقية الدولية إلى إرسال بعثات تقصي حقائق دائمة في المنطقة “ج”، وخاصة في مناطق الخطر مثل مسافر يطا.
- تفعيل أدوات القانون الدولي لمساءلة إسرائيل عن انتهاكاتها الجسيمة، واعتبار سياسة التهجير القسري والتمييز المكاني بمثابة جرائم حرب.
- دعم جهود المؤسسات الفلسطينية لرفع القضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الاستيطان والقتل العمد من قبل المستوطنين.
- توجيه التمويل الدولي لدعم مشروعات تنموية واستثمارية تعزز بقاء الفلسطينيين على أرضهم.
وللإجمال:
تمثل المنطقة “ج” ساحة مركزية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهي تختصر جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على التفريغ والضم. ما يجري في مسافر يطا وأم الخير ليس سوى نموذج لما يتهدد مئات التجمعات. والمطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، موقف فلسطيني موحد، مدعوم بجبهة دولية حقوقية وسياسية، لوقف هذه الجريمة المستمرة بحق الأرض والإنسان.
اعداد: