المشهد العام
منذ مطلع عام 2023، تشهد الأغوار الفلسطينية الشمالية والوسطى تصعيدًا خطيرًا في اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين، في إطار وغطاء سياسي ممنهج يهدف إلى الاستيلاء على الأراضي وتهجير السكان الفلسطينيين، لا سيما التجمعات البدوية والريفية الضعيفة. وتزامن هذا التصعيد مع العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، مما شكّل غطاءً إضافيًا لموجات التهجير والانتهاكات في الضفة الغربية.
تعدد مظاهر الانتهاكات والاعتداءات
ازدادت في السنوات الماضية وتيرة الاعتداءات من قبل المستوطنين ولاسيما انها أصبحت براعية فاضحة من قبل الحكومة أكثر من أي وقت مضى. هذا ويذكر ان الاعتداءات قد تنوعت خلال هذا الوقت واخذت الازدياد ضمن سياسة منظمة تستهدف الوجود الفلسطيني في الأغوار، من خلال التضييق على الأهالي ودفعهم نحو الرحيل لصالح التوسع الاستيطاني. وقد جاءت هذه الاعتداءات بالأشكال التالية:
- التوسع الاستيطاني:
تم إنشاء ما لا يقل عن 59 بؤرة استيطانية جديدة منذ بداية 2023، معظمها “بؤر رعوية”، وهي أدوات فعالة لفرض وقائع جديدة على الأرض. يشكّل هذا الرقم قفزة غير مسبوقة مقارنة بالمعدل السنوي التاريخي لإنشاء البؤر الاستيطانية الذي كان أقل من 7 بؤر سنويًا بين عامي 1996 و2022.
- الاعتداءات الجسدية والمضايقات اليومية:
اقتحم مستوطنون ضمن سلسلة من مئات الاعتداءات التجمعات البدوية في مختلف انحاء الضفة الغربية، وقاموا بقتل و/ او سرقة الأغنام، وسرقة “بركسات” معدنية، ومنعوا المواطنين من التنقل. وثقت عدة جهات محلية حالات قتل وسرقة للمواشي، وطرد الرعاة من المراعي، ومنعهم من دخولها. كما تم توثيق أكثر من 30 حالة تهجير قسري لعائلات من الأغوار الشمالية خلال عام واحد فقط، فيما تعرّض 29 تجمعًا بدويًا في الضفة الغربية لنفس المصير منذ أكتوبر 2023. هذا وتجدر الإشارة بان حصيلة اعتداءات المستوطنين خلال العام 2024 قد بلغت 2400 حالة مسجلة، في حين تم تسجيل 1250 حالة حتى النصف الأول من العام 2025.
- هجمات ممنهجة على مصادر الرزق:
شهد القطاع الزراعي والرعوي اعتداءات غير مسبوقة بعد 7 أكتوبر، شملت تدمير المحاصيل، واقتلاع الأشجار، ومنع الوصول إلى الأراضي. وفيما تعتبر هذه الهجمات استهدف مباشر للأمن الغذائي، الا انها تعتبر أداة رئيسية لتحقيق المسعى الأكبر الا وهو إفراغ الأغوار من سكانها الأصليين لصالح التوسع الاستيطاني.
اليات وانظمة الاحتلال الإسرائيلي في ممارسة وتنفيذ سياسة التهجير
عمدت الإدارة المدنية لجيش الاحتلال الى استخدام قوانين جديدة تتيح لهم تنفيذ أوامر الهدم بشكل فوري دون إخطار، وتطبيقها فعليًا في مناطق متعددة من الأغوار. إضافة لذلك، يعد استمرار إسرائيل في تصنيف الأراضي تحت مسمى “مناطق تدريب عسكري” أو “محميات طبيعية” أو “أراضي دولة“ انتهاكا لحقوق أصحاب الأرض ولاسيما ان الهدف الأساسي من هذه التصنيفات هو منع الفلسطينيين من استخدام هذه الأراضي والتي تزيد مساحتها عن 90% من مساحة الاغوار الفلسطينية. إضافة لذلك، التعنت والرفض الممنهج وشبه التام من قبل الإدارة المدنية لجيش الاحتلال لطلبات الفلسطينيين للحصول على تراخيص بناء في المناطق المصنفة (ج) بحسب اتفاقية أوسلو والتي تقبع تحت الحكم العسكري الإسرائيلي بالكامل، مما يجعل معظم الأبنية عرضة للهدم بذريعة عدم الترخيص.
الاستهداف عبر الأثر النفسي والاجتماعي
أسهمت اعتداءات المستوطنين المتصاعدة في الأغوار وعمليات التهجير القسري في إحداث تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة على السكان الفلسطينيين، تمثّلت في تصاعد مشاعر الخوف والقلق، لا سيما لدى النساء والأطفال، نتيجة الاقتحامات المتكررة والاعتداءات العنيفة ولاسيما خلال الليل على المنازل ومصادر الرزق. وأدى هذا الواقع إلى تفكك النسيج الاجتماعي داخل التجمعات البدوية، وتراجع ملحوظ في فرص الحصول على التعليم والخدمات الصحية الأساسية، إضافة إلى تقييد حركة السكان وحرمانهم من التنقل الآمن بين مناطقهم. كما ساهم استهداف الثروة الحيوانية والأنشطة الزراعية، التي تمثل مصدر العيش الأساسي للعديد من الأسر، في ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي، ما عمّق من حالة الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وجعل التجمعات أكثر عرضة للتهجير القسري والاقتلاع من جذورها.
واقع الاحتلال وأثره على الوجود الفلسطيني:
يعكس الواقع الميداني في منطقة الأغوار والمناطق المصنفة (ج) نمطًا منهجيًا من السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تقويض الوجود الفلسطيني، من خلال سلسلة من الإجراءات القمعية التي تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، التي تنص على حماية السكان المدنيين الواقعين تحت الاحتلال، وتمنع عمليات التهجير القسري وهدم الممتلكات. وفي تجاوز فاضح للمادة (53) من اتفاقية جنيف التي تحظر تدمير الممتلكات الخاصة من قبل القوة المحتلة، أقدمت سلطات الاحتلال خلال العقد الأخير على هدم نحو 7000 منزل ومنشأة فلسطينية في مناطق (ج)، من بينها ما يقارب 2026 منشأة في منطقة الأغوار وحدها، منها 676 شيدت بدعم من جهات حكومية اجنبية ومؤسسات دولية.
وتتجلى السياسات التهجير الاسرائيلية في أشكال متعددة من الحرمان الممنهج من الحقوق الأساسية التي يكفلها القانون الدولي، وعلى رأسها الحق في السكن، والماء، والتعليم، والصحة، وحرية التنقل والعمل. فعلى صعيد الحق في المياه، تُمعن سلطات الاحتلال في تدمير آبار تجميع مياه الأمطار، وتجفيف الينابيع وتحويلها لصالح المستوطنات. أما في مجال التعليم، فتمنع سلطات الاحتلال إقامة المدارس داخل التجمعات البدوية، وتحرم آلاف الأطفال من حقهم في التعليم، إذ لا توجد سوى مدرسة واحدة (مدرسة الخان الأحمر) تخدم عدة تجمعات حتى الصف التاسع، في ظروف صعبة وخطرة بسبب منع استخدام الشارع الرئيسي، ما يحرمهم من مواصلة تعليمهم المدرسي والجامعي.
وفيما يتعلق بالخدمات الصحية، يعيش السكان في واقع شبه معدوم من الرعاية الطبية، حيث لا تتوفر سوى عيادة يتيمة تفتقر إلى التجهيزات الأساسية والأدوية، في تجاهل تام للحق في الصحة المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966). كذلك، يعاني السكان من سياسات ممنهجة لتجفيف مصادر رزقهم من خلال منعهم من الرعي في أراضيهم، وتصنيف هذه المناطق كـ”أراضي دولة” أو مناطق تدريبات عسكرية، ما يشكل خرقًا مباشرًا للمادة (39) من اتفاقية جنيف، التي تضمن سبل العيش للسكان المحميين.
وتتفاقم معاناة التجمعات البدوية بحرمانها من طرق المواصلات الأساسية، حيث ترفض سلطات الاحتلال تعبيد الطرق أو السماح باستخدام الشوارع الرئيسية، مما يضطر السكان، بمن فيهم الأطفال والمرضى، إلى سلوك طرق وعرة للوصول إلى احتياجاتهم اليومية، في انتهاك واضح للمادة (33) من اتفاقية جنيف التي تحظر العقاب الجماعي والمعاملة اللاإنسانية.
في المجمل، تعكس هذه السياسات توجهاً استراتيجياً لفرض واقع استيطاني توسعي في الأغوار ومناطق (ج)، عبر إفراغ الأرض من سكانها الأصليين بحرمانهم من حقوقهم الأساسية وحتى الحد الأدنى من مقومات الحياة، في تحدٍ فاضح للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بعدم شرعية الاستيطان وحماية السكان الواقعين تحت الاحتلال.
التوصيات والخلاصة
في ضوء التصعيد المستمر لاعتداءات المستوطنين في الأغوار الفلسطينية وما يرافقه من تهجير قسري وتضييق ممنهج على التجمعات البدوية، تبرز ضرورة بلورة توصيات استراتيجية شاملة على المستويين الوطني والدولي. فعلى الصعيد الفلسطيني، ضرورة تفعيل الوجود المؤسسي الرسمي في المنطقة، من خلال تمكين الهيئات المحلية والمجالس القروية للعب دور فاعل في تقديم الخدمات الأساسية، وتوثيق الانتهاكات بشكل منهجي ومنظم. كما تبرز أهمية إطلاق حملات إعلامية وتوثيقية فاعلة، تسلط الضوء على الانتهاكات المتصاعدة، وتبرز معاناة السكان للعالم. أما على الصعيد الدولي، فتُوصى الجهات المعنية بالدعوة إلى إرسال بعثات تقصي حقائق إلى الأغوار لرصد وتوثيق الانتهاكات، وممارسة ضغوط سياسية وقانونية على إسرائيل لوقف عمليات الهدم والتهجير والتوسع الاستيطاني، باعتبارها خروقات جسيمة للقانون الدولي الإنساني. كما ينبغي العمل على إدراج جرائم المستوطنين ضمن إطار جرائم الحرب أمام المحاكم الدولية، إلى جانب توجيه الدعم نحو مشاريع تنموية تعزز من صمود السكان الفلسطينيين في الأغوار، وتوفر لهم مقومات البقاء والصمود في وجه سياسات الاقتلاع.
تمثل اعتداءات المستوطنين في الأغوار الفلسطينية، وعمليات التهجير القسري للتجمعات البدوية، جريمة مركبة ذات طابع استعماري، تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وخلق واقع ديمغرافي يخدم مشروع الضم الزاحف.
وتعد السياسات الاسرائيلية لتعزيز التوسع الاستيطاني، وفرض وقائع جديدة على الأرض، بما يشمل تهجير السكان الأصليين، وتوسيع المستوطنات، وتكريس السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، تحدٍ صارخ للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. ومن هنا، فإن التصدي لهذه السياسات يتطلب تحركًا وطنيًا ودوليًا متكاملاً، يرتكز على تعزيز صمود السكان، وتوثيق الجرائم، وتفعيل أدوات القانون الدولي.
اعداد:
معهد الابحاث التطبيقية – القدس ( أريج)