في السياق العام: الخلفية الجغرافية والاستراتيجية
تقع قريتا المنيا وكيسان في جنوب-شرق محافظة بيت لحم جنوب الضفة الغربية، وتتميزان بموقع استراتيجي فاصل بين التجمع الاستيطاني الإسرائيلي “غوش عتصيون” ومنطقة البحر الميت. هذا الموقع الجغرافي جعل منهما هدفًا مباشرًا للمخططات الاستيطانية الإسرائيلية الرامية إلى خلق تواصل جغرافي بين غوش عتصيون والمنطقة الشرقية من الضفة الغربية وصولًا إلى شواطئ البحر الميت، بما في ذلك برية المنيا والمناطق المصنفة كمحميات طبيعية ومناطق إطلاق نار.
المعطيات الجيوسياسية
- رأس الجسر الاستيطاني شرقًا
تشكل أراضي قريتي المنيا وكيسان نقطة ارتكاز حيوية في المسعى الإسرائيلي لتوسيع غوش عتصيون شرقًا نحو البحر الميت، خصوصًا مع وجود مستوطنة “معالي عاموس” والبؤرة الاستيطانية “أبي ناحال” في محيط القريتين، إضافة إلى المنطقة العسكرية المغلقة “منطقة إطلاق النار رقم 912”.
- مناطق محمية بغطاء قانوني زائف
تحيط بالقريتين مساحات شاسعة مصنفة كمحميات طبيعية تزيد عن 167,000 دونم، حيث تُستخدم هذه التصنيفات كوسيلة لمنع المزارعين والرعاة الفلسطينيين من دخولها واستخدام أراضيهم، وفي مرحلة لاحقة تُحوّل هذه الأراضي إلى “حدائق توراتية” أو مواقع لمشاريع سياحية أو استيطانية، وهو ما يُعد مخالفة صارخة للقانون الدولي.
- التكامل الاستيطاني مع المشاريع الصناعية
يجري العمل على إقامة منطقة صناعية إسرائيلية على أراضي القريتين، تهدف لربط المستوطنات بالبنية التحتية الاستيطانية المحيطة بغوش عتصيون (الطرق الالتفافية، الكهرباء، المياه، الاتصالات، وغيرها.
- خطر التهجير الشامل لتجمعات البادية الفلسطينية
تمتد الأراضي المستهدفة جنوب وشرق القريتين لتشمل تجمعات بدوية مثل عرب الرشايدة والراعين والتي بدورها تُواجه خطر التهجير القسري بفعل سياسات المصادرة المتسارعة، والمتمثلة في الإعلانات المتتالية والمتمثلة في مسميات: مناطق “محميات طبيعية” و”أراضي دولة” وغيرها، مثل الإعلان عن السيطرة على 139,000 دونم منذ عام 2009 مقابل شواطئ البحر الميت، ومنع الوصول إلى مصادر المياه، وفرض قيود شديدة على البناء والتنقل.
قرية كيسان: الموقع الجغرافي والتقسيم الجيوسياسي
الأثر الإنساني والسياسي للممارسات الاستيطانية
× تصعيد الاعتداءات الاستيطانية بعد أكتوبر 2023
منذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، استخدمت المستوطنات المحيطة بالقريتين الظرف السياسي لتكثيف الهجمات والضغط على الأهالي بهدف تهجيرهم، حيث تمثلت هذه الاعتداءات بعدة اشكال، منها:
- إغلاق المدارس وحرمان الأطفال من التعليم، بما في ذلك إغلاق المدرسة الثانوية الوحيدة في المنطقة،
- حرق وسرقة المحاصيل الزراعية والماشية،
- الاعتداء على الأهالي بالسلاح وإحراق منازل وممتلكات،
- منع الرعاة من دخول المراعي ومصادرة آليات زراعية،
- اقتلاع اشجار الزيتون في منطقة البقعة،
هذا بالإضافة الى تواطؤ وتنسيق مع جيش الاحتلال، حيث تجدر الإشارة الى ان هذه الاعتداءات من قبل المستوطنين تجري بحماية من جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يكتفي بالصمت بل يشارك في تغطية هذه الأعمال كما تجري على الأرض، فيقوم بتوفير الغطاء للمستوطنين من خلال فرض طوق عسكري على القريتين عبر إغلاق المداخل وتقييد حركة المواطنين ومنع الوصول إلى المراكز الصحية والتعليمية.
× سياسات العزل الممنهجة
- إغلاق جميع مداخل المنيا وكيسان بالسواتر الترابية والبوابات، مما جعل حركة المواطنين مقيده ورهن إدارة الجيش وهو ما جعل وصول المواطنين إلى الأراضي والمدارس والخدمات الصحية وحتى مواصلة أعمالهم مشقة يومية،
- فرض قيود على دخول وخروج البضائع والمزارعين،
- استعمال الكلاب البوليسية والطائرات المسيّرة لترهيب السكان،
- شق طرق استيطانية تحت جنح الظلام ضمن مخطط واضح يهدف الى ربط المستوطنات وفصل الأراضي الفلسطينية الزراعية عن أصحابها،
التهجير الصامت وتفكيك الريف الفلسطيني
تنتهج حكومة الاحتلال ومجلس المستوطنات اسلوب “التهجير الصامت”، الذي يعتمد على خلق بيئة طاردة بدلًا من أوامر الإخلاء الرسمية، حيث تشمل هذه الاجراءات:
- حرمان قرى الريف الفلسطيني (منطقة ج) من الحد الأدنى من حقهم في البناء والتوسع ومد شبكات البنية التحتية،
- ممارسة الضغط النفسي والاقتصادي الدائم على السكان. لدفعهم الى الانتقال والسكن خارج تجمعاتهم،
- سلب المياه، خاصة الآبار والخزانات التي تروي الأراضي الزراعية،
- فصل ممنهج لتجمعات المنيا وكيسان عن التجمعات البدوية القريبة (الرشايدة، الرواعين) لمنع أي تكتل سكاني فلسطيني في المنطقة، وذلك ضمن خطة إسرائيلية تهدف إلى فصل المناطق الريفية الفلسطينية في بيت لحم عن بعضها وبالصورة الأكبر عن المحافظات الأخرى وبالمقابل ربط المستوطنات بشبكة طرق ومناطق صناعية/سياحية/زراعية، تمتد من غوش عتصيون حتى البحر الميت.
جهود المواجهة القانونية والمجتمعية
يقتصر التحرك القانوني في المنيا وكيسان على جهود محدودة، مرتبطة بعوامل مختلفة، حيث تتمثل هذه التحركات في سعي المجالس القروية تقديم التماسات أمام المحكمة العليا الإسرائيلية بهدف إثبات ملكية الأراضي، رغم ضعف او بالأحرى انعدام الثقة في نظام قانوني والذي هو بمثابة أداة شرعنة للمشروع الاستيطاني. ورغم ذلك، يجري العمل على توثيق الانتهاكات اليومية من خلال تقديم شكاوى إلى المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية، كخطوة ضرورية لحفظ الحقوق ومواجهة التهجير بالمسارات القانونية والإعلامية.
ولكن، يبقى العامل الأكثر تاثيرا على الأرض، هو حالة الصمود الشعبي والمبادرات الذاتية، والمتمثلة في:
- شق طرق زراعية ترابية لربط التجمعات السكنية والبدوية مع بعضها وباتجاه مراكز المدن،
- مد خطوط مياه وكهرباء بلاستيكية لتجاوز الحصار،
- تنظيم لجان حماية شعبية للتصدي لهجمات المستوطنين والدفاع عن الأراضي والممتلكات،
التوصيات
تشكل قريتا المنيا وكيسان مثالًا حيًا على تصاعد السياسات الاستيطانية الإسرائيلية الهادفة إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية جنوب الضفة الغربية. وفي ظل خطورة هذه المخططات، تبرز ضرورة تبني توصيات شاملة على ثلاثة مستويات مترابطة:
- على المستوى المجتمعي
- إنشاء مرصد وطني متخصص في رصد ومتابعة النشاطات الاستيطانية في المنطقة الشرقية من محافظة بيت لحم،
- إطلاق حملات إعلامية تسلط الضوء على خطورة وتداعيات المخطط الاستيطاني الرامي إلى ربط تجمع غوش عتصيون بالبحر الميت،
- التنسيق مع لجان ومنظمات حقوق الإنسان الدولية لتسيير بعثات ميدانية لرصد وتوثيق الانتهاكات، لا سيما بعد تصاعدها منذ 7 أكتوبر 2023،
- على المستوى الوطني الفلسطيني
- إدراج المنيا وكيسان ضمن أولويات الخطاب السياسي والميداني الرسمي بوصفهما مواقع صمود وطني،
- تنفيذ خطط تنموية لتحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية، وخاصة في مجالات المياه، الصحة، والتعليم،
- رفع قضايا التهجير والانتهاكات الجارية في المنيا وكيسان أمام محكمة الجنايات الدولية، ضمن الملفات المتعلقة بالتهجير القسري وانتهاك حقوق الإنسان تحت الاحتلال.
- على المستوى الدولي
- دعوة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن استخدام إسرائيل للمحميات الطبيعية والمناطق العسكرية المغلقة كأدوات للضم التدريجي،
- الضغط على الدول المانحة لتقييد مساعداتها لإسرائيل وربطها باحترام القانون الدولي واتفاقيات حماية المدنيين تحت الاحتلال،
- تضمين قريتي المنيا وكيسان في تقارير المفوضية الأوروبية والمنظمات الأممية كأحد أبرز المواقع المهددة في المنطقة “ج”، وإبرازها ضمن أولويات الدعم والحماية.
خاتمة
أطلق أهالي قريتي المنيا وكيسان دعوات عاجلة للحكومة الفلسطينية ومؤسسات المقاومة الشعبية لزيارة المنطقة والاطلاع بشكل مباشر على خطورة الأوضاع على الأرض مطالبين بتبني إجراءات حكومية وتفعيل حملة شعبية وجبهة مفتوحة واعتبار أن المخطط الاستيطاني الجاري في المنيا وكيسان يستدعي تحركًا وطنيًا ومؤسساتيًا عاجلًا لوقف التهجير وتعزيز الصمود.
لا تُمثل الاعتداءات المتواصلة على المنيا وكيسان مجرد حوادث فردية أو توسعات عمرانية عشوائية، بل تأتي في إطار مشروع استيطاني استراتيجي متكامل يسعى إلى فرض رؤية ومخطط الاحتلال الهادف الى إعادة صياغة النسيج الجغرافي والديموغرافي الفلسطيني تماشيا مع سياسات التهجير، مما يستدعي تحركًا فلسطينيًا ودوليًا فاعلًا، قانونيًا ومجتمعيًا، لمواجهة هذا المخطط وكبح جماح التوسع الاستيطاني الذي يهدد مستقبل الوجود الفلسطيني برمته واي إمكانية لتحقيق العدالة والسلام.
اعداد: