في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، لا نستحضر مجرد صفحة دامية من ماضٍ بعيد، بل نفتح كتابًا لا يزال يُكتب بمداد الدم والذاكرة. فليست النكبة واقعةً انقضت، بل مشروعٌ استعماري متجدد، تتجدد معه محاولات الإقصاء والاقتلاع. هي ليست فقط لحظة تهجير قسري لما يقارب المليون فلسطيني عام 1948، بل لحظة تأسيس لنهج استئصالي يسعى لمحو الإنسان والمكان والهوية. غير أن هذه الكلمات لا تنكفئ على مأساة الماضي، بل تُعيد قراءة النكبة كبوابة نحو النهوض، وكمنطلق لصياغة مستقبل تُبنى ملامحه من بين الأنقاض، بإرادة من لا يزال يؤمن أن الوجود الفلسطيني هو ما يُعرّف فلسطين.
الجريمة المؤسسة… تطهير عرقي بحجم دولة
عام 1948، اجتاحت العصابات الصهيونية 774 تجمعًا فلسطينيًا، دمّرت منها 531 قرية بالكامل، وارتكبت أكثر من 77 مجزرة مروعة، راح ضحيتها نحو 15،000 فلسطيني، وتم تهجير ما يزيد عن مليون نسمة من أصل 1.4 مليون. ومنذ ذلك الحين، استمرت آلة القتل: أكثر من 154،000 شهيد فلسطيني، منهم 52،600 منذ انتفاضة الأقصى، ونحو 54،000 شهيد في عدوان غزة منذ أكتوبر 2023، بينهم 18،000 طفل، و12،000 امرأة. أُبيدت مئات الأسر، وفُقد أكثر من 7،000 شخص، أغلبهم من النساء والأطفال، وبلغ عدد الجرحى أكثر من 125،000. في الضفة الغربية، تجاوز عدد الشهداء اكثر من 1100 خلال الفترة نفسها.
النكبة اليوم لا تُقرأ فقط في الكتب، بل تُبث على الهواء مباشرة من غزة، حيث تُمارس أبشع أشكال الإبادة. أكثر من 110،000 مبنى دُمّر، 68،900 منها سُوّي بالأرض، وأكثر من 330،000 وحدة سكنية تضررت، 70% منها باتت غير صالحة للعيش. نزح نحو مليون شخص داخل القطاع، وانهار النظام الصحي، فيما يعاني أكثر من 65،000 طفل من سوء تغذية، و57 منهم ماتوا جوعًا، بينما أُحصيت اضطرابات نفسية شديدة لدى 92 طفلًا.
ديموغرافيا الحياة… الفلسطيني يتكاثر رغم الركام
على الرغم من النكبات المتتالية، لم يتلاشَ الشعب الفلسطيني، بل بات شاهدًا ديموغرافيًا يدحض أسطورة “أرض بلا شعب” من 690،000 فلسطيني عام 1914، ارتفع العدد إلى أكثر من 15.2 مليون في 2025:
- 5 مليون في الضفة وغزة،
- 1 مليون داخل أراضي 1948،
- 6 مليون في الشتات.
أما داخل فلسطين التاريخية، فارتفع عدد الفلسطينيين من 160،000 عام النكبة إلى 5.5 مليون اليوم، في مشهد يُثبت أن المشروع الصهيوني فشل في إنهاء الوجود الفلسطيني، الذي لم يتراجع بل تكاثر تحت الحصار.
جغرافيا منهوبة… استيطان وعنف ممنهج لا يتوقف
بنهاية 2024، بلغ عدد المستوطنات والبؤر والقواعد العسكرية في الضفة الغربية 710 موقعًا، بينها:
- 200 مستوطنة رسمية،
- 305 بؤرة استيطانية، 125 منها مستقلة و180 مُلحقة بمستوطنات قائمة،
- وصل عدد المستوطنين إلى أكثر من 870،000، بينهم 340،000 (39%) في القدس الشرقية،
- في عام 2025، أصدرت سلطات الاحتلال خُطط لبناء أكثر من 17،000 وحدة استيطانية جديدة،
- عام 2024، سجلت المؤسسات الحقوقية أكثر من 16،600 اعتداء، بحق الممتلكات، والاعتداء الجسدي المباشر، وعلى أماكن العبادة والمؤسسات.
الانقسام… الجرح الذي يجب أن يندمل
منذ صيف العام 2007، ألقى الانقسام الفلسطيني بظلاله الثقيلة على جسد القضية، فمزّق وحدة الجغرافيا، وأوهَنَ نسيج السياسة، وأضعف الموقف الوطني أمام عدو لا يكفّ عن استغلال الشروخ. ورغم أن الاحتلال لم يكن الشرارة الأولى لهذا الانقسام، إلا أنه كان المستفيد الأكبر، إذ وفّر له الانقسام غطاءً لمواصلة مشاريعه الاستيطانية والتهويدية دون رادع موحد.
لكن هذا الانقسام، مهما طال واستفحل، ليس قدرًا مكتوبًا، ولا مصيرًا محتوما. فالشعب الذي وقف في وجه النكبة موحّدًا، لا يمكن له أن يصنع نهوضه في ظل الانقسام. لقد آن الأوان لأن تُستعاد البوصلة الوطنية، ويُعاد بناء البيت الفلسطيني الداخلي على أسس المشاركة والشراكة، لا التنازع والتناحر.
إننا لا نكتب عن النكبة لنتوقف عندها، بل لنؤكد أن الحكاية لم تنتهِ، فبعد سبعة وسبعين عامًا من النكبة، لم تستطع إسرائيل أن تمحو الوجود الفلسطيني، فكل طفل يولد في مخيم، كل مفتاح يُورَّث كرمز للعودة، وأن المقاومة لم تُطفأ، وأن المستقبل لن يُكتب إلا بالفلسطيني، المقاوم، الحي، الصامد، ولا بالحبر فقط، بل بالدم والثقافة والحياة. هذا الشعب باقٍ، وهذا الوطن لا يُنسى. بالثقافة، بالذاكرة، بالصمود، وبالإرادة الحية، يُكمل الفلسطيني حكاية الأرض، ويرفض أن يُختتم فصله الأخير ما لم يُكتب بيده، وبحقه، وبحريته.
اعداد:
معهد الابحاث التطبيقية – القدس ( أريج)