مقدمة
ان المشاهد الاليمة للتفجير والدمار والقتل والتهجير القسري للفلسطينيين منذ السابع من شهر تشرين أول من العام 2023 وحتى اليوم تشكل تحديًا كبيرًا أمام الشعب الفلسطيني، اذ انها تثير مزيدا من مشاعر الحزن والألم والمعاناة والكراهية، في ظل تفاقم الأوضاع والصعوبات والتحديات التي يعاني منها الشعب الفلسطيني بسبب القيود والاجراءات الإسرائيلية والحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2007.
وان مسألة التحدث عن السلام في هذا الوقت العصيب يكاد يكون أكبر التحديات، نظرًا للواقع المشؤوم الذي تتسم به هذا الحرب الإسرائيلية المسعورة، والتي تسببت حتى اليوم في مقتل أكثر من 16300 فلسطيني، بما في ذلك 6,600 طفل و 4,300 امرأة؛ وإصابة أكثر من 42,000 فلسطيني، 70٪ منهم من الأطفال والنساء, وأكثر من 7600 لا يزالون تحت الأنقاض؛ هذا بالإضافة الى التدمير الكامل لـ 103 مكتب حكومي، و270 مدرسة، و88 مسجدًا، و50,000 وحدة سكنية؛ والحاق الضرر الكبير لـ 183 مسجدًا، و3 كنائس، و250,000 وحدة سكنية؛ واستهداف متعمد لـ 20 مستشفى، و110 مركزًا صحيًا، و56 سيارة إسعاف, الامر الذي يبرر الحاجة الملحة لتحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة، والذي يعتبر ضروريًا لمستقبل الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، وأيضا لكسر دائرة العنف والالم والمعاناة.
وخلال الـ 14 عامًا الماضية لبنيامين نتنياهو, كرئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائيلي, قامت الحكومات الإسرائيلية اليمينة المتعاقبة بوضع قضية “ضم الضفة الغربية لحدود دولة الاحتلال” على سلم أولوياتها وواصلت سياستها الممنهجة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة المحاصر الامر الذي أدى الى تفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي والسياسي في المنطقة. هذا بالإضافة الى الاستمرار بالبناء والتوسع في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة والمواقع الإسرائيلية الاخرى، مع التركيز بشكل خاص على القدس الشرقية المحتلة والتكتلات الاستيطانية الكبرى (جوش عتصيون وجفعات زئيف ومعاليه أدوميم وأريئيل). هذا وتضمنت عمليات البناء والتوسع تطوير البنية التحتية الاستيطانية، والتي شملت، ولم تقتصر فقط، على بناء الطرق الالتفافية الإسرائيلية والأنفاق المرورية بذريعة تسهيل حركة المستوطنين الإسرائيليين بين المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة ووصولاً إلى المستوطنات الاسرائيلية في الداخل المحتل (الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948) الامر الذي ساهم وبشكل كبير في تجزئة الأراضي الفلسطينية إلى مناطق غير متصلة جغرافيًا أو ما أصبح يعرف بـ “كانتونات”، مع سيطرة تامة على هذه الطرق من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي وأيضا على نقاط الدخول والخروج فيها؛ وتقييد إمكانية استخدام معظم هذه الطرق لاستخدام المستوطنين الإسرائيليين فقط. وتزامن هذا أيضا مع جهود الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لعرقلة البناء الفلسطيني في المناطق المصنفة “ج” في الضفة الغربية المحتلة (بحسب اتفاقية أوسلو الثانية للعام 1995) وتهجير تجمعات فلسطينية بأكملها. علاوة على ذلك، قامت الحكومات اليمينية المتعاقبة، وبشكل غير قانوني وأحادي الجانب، بتخصيص مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية المحتلة كمحميات طبيعية، وغابات، وحدائق وطنية، ومناطق نفوذ مستوطنات، ومناطق عسكرية مغلقة ومناطق تدريب عسكرية ومناطق اطلاق نار، والعديد من المسميات من خلال أوامر عسكرية أصبحت لاحقًا ممنوع على الفلسطينيين الوصول اليها أو زراعتها أو حتى استصلاحها لأي غرض كان.
كما كان لهجمات المستوطنين الإسرائيليين القاطنين في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة على المدنيين الفلسطينيين، وأراضيهم وممتلكاتهم خلال أعوام الاحتلال الإسرائيلي دورا كبيرا في تفاقم الاوضاع في الضفة الغربية المحتلة وشكلت تهديدًا خطيرًا على استقرار الضفة الغربية المحتلة، خاصة وانها ازدادت بشكل ملحوظ خلال الأعوام القليلة الماضية.
ولم يختلف الوضع في قطاع غزة المحاصر بأي شكل من الأشكال عما يحدث في الضفة الغربية المحتلة، حيث فرضت إسرائيل إغلاقًا صارمًا على القطاع منذ العام 2007، وتنكرت لحقوق الفلسطينيين الأساسية المستحقة لهم بموجب القوانين والمعاهدات الدولية، والتي لا تقتصر على ذلك فقط، بل أيضا تنكرت للاعتبارات الإنسانية الأساسية والحماية. كما واصلت إسرائيل سياستها في فرض إجراءات وإغلاقات صارمة على القطاع وتضييق الخناق على المواطنين، الامر الذي اثر وبشكل سلبي على الحياة اليومية للفلسطينيين في قطاع غزة ورفاهيتهم.
حل الدولتين … لا مفر منه
لطالما دعا المجتمع الدولي إلى حل الدولتين كحلا وحيدا للصراع الفلسطيني-الاسرائيلي لأنه يصور إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة إلى جانب دولة إسرائيل، على حدود العام 1967. وقد عبرت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية عن دعمها لحل الدولتين كإطار مفضل لحل الصراع الدائر منذ عشرات السنين، والذي تشمل عناصره الأساسية المفاوضات حول المستوطنات الإسرائيلية والحدود والترتيبات الأمنية ووضع القدس المحتلة وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
كما أكد المجتمع الدولي دائمًا على أهمية المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين للوصول إلى اتفاق بين الطرفين. وقد قامت مختلف الجهود الدبلوماسية والمبادرات والمساعي السلمية بوساطة دولية لتسيير الحوار وتعزيز احتمالات تحقيق حل الدولتين، الا أن الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية على مر أعوام الاحتلال حالت دون ذلك وما زالت تشكل عقبة أمام تحقيق حل سلمي ودائم بين الجانبين، وأمام طموح الفلسطينيين للحصول على دولة مستقلة وقابلة للحياة داخل حدود العام 1967، حيث تقلصت المساحة المتاحة لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتصلة جغرافيا.
“الآن أو أبدًا” … حل الدولتين الأمثل لتحقيق سلام عادل ودائم
تضيف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر تحديات وصعوبات جمة إضافة إلى تلك الموجودة بالفعل، والتي بدورها تعيق تحقيق حل الدولتين. ومع ذلك، يرى العديد أن حل الدولتين لا يزال الطريق الوحيد والقابل للتطبيق لتحقيق سلام عادل ودائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ووقف دائرة العنف التي دخلت يومها الثاني والستين على التوالي في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث تتجلى الأولوية في معالجة القضايا الجذرية من أجل السعي إلى حل شامل للصراع.
ويعتبر الحل التفاوضي القائم على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة 242 و338 كأكثر الحلول القابلة للتنفيذ في سبيل تحقيق سلام دائم وعادل، حيث شهدت الأيام الماضية زيادة في الدعوات العالمية والملحة لتحقيق حل الدولتين، مع تأكيد العديد من الأطراف العالمية على أن الوقت الحالي يوفر فرصة مواتية للمشاركة الفعَّالة في مبادرات نحو تحقيق حل الدولتين. ففي تصريحاته بشأن إطلاق سراح “الرهائن الإسرائيليين” من قطاع غزة في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني 2023، أكد الرئيس الأمريكي، جو بايدن, على أهمية “حل الدولتين” في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، قائلاً: “نظرًا لأننا نتطلع إلى المستقبل، يجب أن ننهي دائرة العنف في الشرق الأوسط”… “دولتان لشعبين. وهو أمر أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى”. وجاء تصريح الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة والأمنية، جوزيب بوريل، في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام 2023 في برشلونة، خلال المنتدى الإقليمي الثامن للاتحاد من أجل المتوسط (UfM)، ليثني على ما صرح به الرئيس الأمريكي، حيث قال: “بدون دولة فلسطينية، لن يكون هناك ‘سلام أو أمان لإسرائيل'”.
كما صرحت، أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية أيضًا في مقابلة لها مع رئيس تحرير صحيفة POLITICO في الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام 2023, قائلة: “الآن أو أبدًا” لحل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين؛ “الوقت حان الآن”. وأضافت، “من المثير للغاية أنه بسبب الأحداث الرهيبة في الشرق الأوسط، أصبح حل الدولتين أكثر احتمالًا بكثير مما كان عليه قبل أشهر أو سنوات.”
وفيما يتعلق بالموضوع ايضا، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، خلال إحياء يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام 2023، إنه “حان الوقت للتحرك بشكل حازم ولا رجعة فيه نحو حل الدولتين، على أساس قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، مع إسرائيل وفلسطين تعيشان جنبًا إلى جنب في سلام وأمان، وبالقدس عاصمة لكلا الدولتين”، معبرًا عن الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات الآن من أجل إنهاء دائرة العنف وبناء مستقبل سلام وعدالة وأمان وكرامة للجميع.
وعلى الرغم من (المساعي) الدعوات الدولية للتحرك نحو “حل الدولتين” لإنهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، يواجه الفلسطينيون واقعًا صعبًا على الأرض، 56 عامًا من الاحتلال الإسرائيلي يصحبها جهود إسرائيلية حثيثة وواسعة لتقويض عملية تحقيق سلام عادل ودائم مع الفلسطينيين. وتجدر الإشارة الى انه وخلال أعوام الاحتلال الإسرائيلي، حافظت إسرائيل على مبدأ “الامتناع عن اتخاذ خطوات نحو حل الدولتين”، سواء جغرافيًا (جيوسياسيا) أو دبلوماسيًا، على الرغم من الاتفاقيات الموقعة، لأنها لم تكن ترغب، في أي وقت من الأوقات، في التخلي عن أنشطتها الاستيطانية (بجميع أشكالها) في الضفة الغربية المحتلة أو حتى رفع الحصار عن قطاع غزة. واستمرت بشكل متعمد في الاستفادة من استمرار “عدم الاستقرار السياسي وانعدام الأمان”، لتنفصل عن الفلسطينيين وتحرمهم من حقوقهم، متناسية جميع المبادرات الدولية والاتفاقيات الموقعة.
الحقيقة واضحة هنا: إسرائيل تمتنع عن اتخاذ أي خطوات من شأنها أن تحقق “حل سلمي” لأنها، ببساطة، لم تعد مهتمة بالوصول إلى حل سلمي مع الفلسطينيين.
للاطلاع على مزيد من التفاصيل حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والاتفاقيات الموقعة، https://www.arij.org/atlas40/
اعداد:
معهد الابحاث التطبيقية – القدس ( أريج)