ستة أشهرٍ مضت من عُمر المفاوضات التي إنطلقت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الحادي والثلاثينَ من تموز من العام الماضي برعاية ووساطة الولايات المتحدة الأمريكية، يتزعم هذه الوساطة رأس الدبلوماسية الأمريكية وزير الخارجية جون كيري، ولا يزال الغُموض يتصدر المشهد ولم يتضح ما تبلور من خطة كيري إلا تسريباتٍ من الصحافة الإسرائيلية والدولية وإن صحَت هذه التسريبات فهناك العديد من البنود التي تمس بجوهر الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني والتي ناضلَ وكافحَ من أجلِها عشراتِ السنين.
لعل من أخطر ما هو مطروح في خطة كيري المُقترحة، والتي من المفترض أن يتم إعتمادُها في النهاية كإتفاق إطار يوقع عليه الجانبين ، الأخذ الأمريكي بعين الإعتبار التغييرات الديمغرافية التي طرأت وخاصة الزيادة السُكانية في عدد المستوطنين الإسرائيليين في التكتلات الإستيطانية الكبرى الأمر الذي يُعتبر إمتدادًا لنهج الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جورج بوش الإبن والذي أكد في رسالته إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق أرئيل شارون في أبريل من العام 2004 على أن "الحل يجب أن يكون على أساس قرارات الشرعية الدولية والقرارين 338 و 242 ولكن وفي ضوء الحقائق الجديدة على الأرض ومنها وجود مراكز سكانية كبيرة(يقصد هنا الكتل الإستيطانية) قائمة أصلا ليس من الواقعي التوقع أن تؤول مفاوضات الوضع الدائم إلى الإنسحاب الكامل والشامل إلى خط الهدنة للعام 1949 وهذا ما إستنتجت إليه كل الجهود السابقة للتفاوض بشأن حل الدولتين" ويتضح هنا بأن جون كيري يسير على نهج الإدارات الأمريكية السابقة الأمر الذي يُعد إنحيازًا الى المطالب الإسرائيلية وإلى قبول وضع الأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل على الأرض الفلسطينية ببنائها المُتواصل وتوسيعها للمستوطنات غير الشرعية بدون توقف وعلى مدار السنوات السابقة.
علاوة على ذلك، فإن الطرح الأمريكي المذكور والضغط الأمريكي المتواصل على الفلسطينيين لقبوله يُعتبر تراجعًا صريحًا عن قرارات الشرعية الدولية مُتمثلة في القرارين 338 و 242 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي واللذان نصَا على عدم جزاز إحتلال الأراضي بالقوة على ضرورة الإنسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي إحتلتها في عُدوانها عام 1967 أي الرجوع إلى خطوط الرابع من حزيران من العام ذاته وأيضا يُعتبر تراجعًا عن كافة القرارات والمُبادرات الدولية وقرارات الجامعة العربية.
للأسف فقد إستطاعت الحكومة الإسرائيلية اليمينة بقيادة بنيامين نتنياهو إستغلال فترة الشهور الستة من المفاوضات لصالحها، ليس فقط بسبب تكثيف البناء الاستيطاني وإقرارها العديد من المُخططات الإحتلالية والتوسعية، بل لأنها إستطاعت أن تُحول موضع الإستيطان برمته إلى موضوعٍ هامشي لا يحظى بالأهمية المطلوبة حتى إعلاميًا، ناهيك عن نجاح الحكومة الإسرائيلية في تجيير الموقف الامريكي من المفاوضات لصالحها وتحديدًا في موضوع الإستيطان مُعتمدة في ذلك على سياسة الأمر الواقع التي انتهجتها على الأرض والتي وللاسف أتت بثمارها بحيث غزت التجمعات الاستيطانية أرجاء الأرض الُمحتلة وصار لزامًا على الفلسطينيين، ومن خلال المفاوضات، وبموافقة أمريكية، أن يُقرَوا عملية لتبادل الأراضي مع الإسرائيليين مقابل التكتلات الإستيطانية التي أقامتها اسرئيل ووسعتها بشكلٍ مدروسٍ ومُمنهج خلال أعوام إحتلالها وحتى أن إسرائيل قد طرحت على كيري بأن تقوم بعملية تبادلٍ محدودة وأن بقية الأراضي التي ضمتها ستقوم بتعويض الفلسطينيين ماديا عنها.
ولو تعمقنا أكثر في موضوع التجمعات الاستيطانية سنجد بأن الحُكومات الإسرائيلية المُتعاقبة قد عمدت إلى تكثيف البناء الإستيطاني والتوسع أفقيًا في تلك التجمعات وفرض الوقائع على الأرض، وفي المقابل تكثيف الضغوط على السُكان الفلسطينيين المقيمين بمحاذاة هذه التكتلات والتضييق عليهم ومصاردة أراضيهم وإغلال يد المستوطنين ضدهم لدفعهم نحو الهجرة الطوعية من تلك المناطق وذلك لهدف واحد وواضح ألا وهو خلق تكتلات إستيطانية يهودية خالصة خالية من الفلسطينيين ليتم ضمها وبحكم الأمر الواقع أيضا إلى حدود دولة الإحتلال في أي مفاوضات للحل النهائي مع الفلسطينيين.
يبدو أن إسرائيل لم تكتفي بفترة التسعة شهور المُحددة للمفاوضات والمفترض ان تنتهي بنهاية آذار من العام الجاري لتنفيذ مآربها وخُططها التوسعية ، فهي تضغط على وزير الخارجية الأامريكي جون كيري بأن يُمدد من فترة المفاوضات وتسوق لذلك إعلاميًا بزعم أن الفترة المحددة غير كافية بيد أن الواقع يقول عكس ذلك فطوال فترة المُفاوضات لم توافق الحكومة الإسرائيلية أو ترد إيجابًا على أيٍ من مُقترحات كيري الخاصة بغور الأردن أو القدس أو تبادل الأراضي أو الفترة الانتقالية أو الكتل الاستيطانية فكان التعنُت الإسرائيلي سيد الموقف وبذلك وعلى الأرض فان إسرائيل تريدُ أن تُطيلَ من أمد المفاوضات لكسب المزيد من الوقت لحسم الإستيطان على الأرض، فهناك البؤر الاستيطانية التي تزداد يومًا بعد يوم ولم يتم إخلاءُ أيٍ منها خلافًا لما تم الإتفاقُ عليه في خارطة الطريق للسلام عام 2003 حيث نصت على ضرورة وقف إسرائيل لكافة البناء الإستيطاني حتى المتعلق بالنمو السكاني وتفكيك البؤر الإستيطانية التي تم انشاؤها بعد تاريخ 31 آذار من العام ،2001 ولكن أي من ذلك لم يحصل بالطبع بات اليوم لدينا تجمعاتٍ استيطانية تُلطخ خارطة الضفة الغربية يزيد عددها في الواقع عن ال 20 تجمعًا لضخامتها و أضحت هذه التجمعات تشكلُ ما نسبُه 75% من إجمالي المناطق المصنفة " ج" حسب اتفاق اوسلو للعام 1995.
في واقع الحال ليس ملف الإستيطان وحده ما يثير الريبة والقلق في المفاوضات الحالية ولكن هناك موضعٌ أخرٌ وجوهري وهو موضع الحدود والتي حسمتهُ إسرائيل سلفًا حتى قبل أن تبدأ المفاوضات، فجدارُ الفصلِ العُنصري الذي شيدتهُ إسرائيلَ بدعوى إحلال الأمن لدولة الإحتلال ومواطنيها والبالغ طوله 774 كلم، لم يكن جدارًا أمنيًا بل سياسيًا بامتياز، حيث ان 51 كلم فقط من مسار الجدار (6.5% من إجمالي طوله) يسير على الخط الأخضر- خط الهدنة للعام 1949 مبتلعًا وراءَه 733 كلم مربع من أراضي الفلسطينيين (13% من إجمالي مساحة الضفة الغربية) وضم وراءه أيضا خمسة تجمعات إستيطانية يهودية يعيش فيها أكثر من 75% من إجمالي المُستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية المُحتلة فبذلك لم يكن جدار الضم والتوسع والذي شرعت اسرائيل ببنائِه في العام 2002 إلا ترسيمًا أحاديَ الجانب للحدود مع الفلسطينيين وإستباقًا لأي مُفاوضاتِ سلامٍ مُستقبلية لكي تتملصَ من تقديمِ أي تنازلاتٍ حقيقية لصُنع السلام وهو أمرٌ يتنافى تمامًا مع القانون الدولي والإنساني، فالجدار الفاصل هو جدارٌ غيرُ شرعي تم بناءُ مُعظمِه على أراضي الفلسطينيين الخاصَة وقد أصدرت محكمةُ العدل الدولية في لاهاي حُكمها الإستشاري في التاسع من تموز من العام 2004 والذي "قضى بعدم شرعية الجدار وضرورةِ إزالتِه وتفكيكِه وتعويضِ الفلسطينيين الذين تضرَروا نتيجةً لبنائه". خارطة رقم 1
الخارطة رقم (1): مخطط جدار العزل العنصري في الضفة الغربية المحتلة
إن كافة الشواهد تدلُ على أن ما كانت تُنفذه إسرائيلَ من مُخططاتٍ خلال السنوات السابقة لم يكن عبثيًا بل تم بشكلٍ مُنظمٍ ومُمنهج، فإقامة الجدار وعزله لمساحاتٍ شاسعة من أراضي الفلسطينيين وضمِه التكتلات الإستيطانية الكُبرى لم يكن صُدفة، وتوسيع المُستوطنات الإسرائيلية وبناءِ المزيد من البؤر الاستيطانية غير الشرعية والإمتناع عن إخلاء أي منها حتى تلك التي صنفتها سُلطات الإحتلال على أنها غير شرعية لم يتم إخلاؤها، بل حظيت بدعمٍ حكوميٍ مكنها من الإستمرار والتوسع، ويتضح لنا هنا بأن الحُكومات الإسرائيلية المُتعاقبة امتنهنت الكذب- (شارون ذكر في رسالته الى جورج بوش في شهر نيسان من العام 2004 "بأن الجدار الفاصل يُشكلُ حاجزًا أمنيًا وليس سياسيًا وهو مؤقت وليس دائمًا وعليه فإنه لن يُعرض للخطر أي قضية من قضايا الوضع الدائم بما في ذلك الحُدود النهائية")- والإدارات الأمريكية المُتعاقبة كانت بدورها تُغمض عينيها عن هذا الكذب، بل وتُريد فرضَه أمرًا واقعًا على الفلسطينيين من خلال رعايتها للجولةِ الحالية للمفاوضات وضغطها غير المُبرر على القيادة الفلسطينية والمُفاوض الفلسطيني للقبول بطروحاتٍ لا تُلبي الحد الأدنى من الحُقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإلا فليبحث الفلسطينيون عن وسيط نزيه أو يبعثوا بملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة ليكون لها الكلمة الفصل في حسم موضوع أطول وأخر إحتلال عسكري في التاريخ المعاصر وذلك من خلال تطبيق صحيح القانون الدولي والانسني وقرارت الشرعية الدولية ذات الصلة.
اعداد: معهد الابحاث التطبيقية – القدس
(أريج)