يبدو أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يرى بان حل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي سيكون من خلال خطة اقتصادية من شأنها أن تدفع الفلسطينيين تحديداً النظر إلى قضيتهم من جانب مادي واحد وهو انطباع كان موجوداً سابقا لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والذي سرعان ما أدرك بان الاقتصاد ليس مفتاح الحل ولكنه سيكون مخدر للفلسطينيين الذين سرعان ما سيفيقون منه للعودة لما هو فعلا جوهر وأسس هذا الصراع: الأرض والقدس وأهمهم الإنسان.
لقد تواردت الأخبار عن مبادرة سيتقدم بها كيري في جولته القريبة القادمة إلى الأراضي المحتلة من شأنها دفع العملية السلمية "حسب ما تدعيه" المبادرة إلى الأمام وتأتي هذه المبادرة بعد أن أدرك كيري اخيراً بأن إحداث أي تقدم في المفاوضات بين الجانبين على الصعيد السياسي أمراً أشبه بالمستحيل في ظل الظروف الراهنة وان الخيار الاقتصادي والذي طرحه نتنياهو في وقت سابق أضحى بمثابة الطريق الوحيد لمحاولة المضي قدماً في ما تبقى من العملية السلمية فضلا عن أن كيري يريد أن يسجل انجازاً في فترة خدمته في الخارجية حتى لا يبقى سجله فارغاً أو مكدس فقط بالإخفاقات.
إن محاولة كيري المضي قدماً في المفاوضات تأتي في ظل إصرار فلسطيني قديم- جديد- متجدد على وقف الاستيطان بشكل كامل ونهائي في كافة الأراضي المحتلة عام 1967 وتحديداً في مدينة القدس الشرقية وان تكون المفاوضات قائمة على حق إقامة الدولة الفلسطينية المحتلة على الأراضي المحتلة عام 1967 بما في ذلك 5661 كم مربع هي الضفة الغربية والقدس الشرقية و 362 كم مربع هي قطاع غزة و194 كم مربع هي الحقوق المائية الفلسطينية في البحر الميت و1388 كم مربع هي الحقوق المائية الفلسطينية قبالة شواطئ غزة. وفي الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل بالإصرار على تركيز المفاوضات على مسالة الحدود والأمن فان على المرء أن يتساءل عن أية حدود وأي أمن هذا الذي تتحدث عنه إسرائيل.
فبالنسبة للحدود فإن إسرائيل تفرض الأمر الواقع من خلال بناء الجدار وتعزيز التكتلات الاستيطانية على جانبيه من خلال تكثيف البناء الاستيطاني في كافه المواقع إما في ما يتعلق بالأمن فهو الأمن الإسرائيلي في المرتبة الأولى والأخيرة. وفيما يتعلق بالبناء الاستيطاني فقد تناقلت الانباء بأن المبادرة الأميركية تنص على التزام إسرائيل بوقف الاستيطان في المستوطنات الواقعة خارج الكتل الاستيطانية والقدس وأن تمارس إسرائيل قيوداً قصوى على البناء في الكتل الاستيطانية وعدم المصادقة على أي عطاءات جديدة للبناء في المستوطنات إثناء المفاوضات. إن خطورة هذا الطرح تكمن في أنه يشرعن القبول بمفهوم الكتل الاستيطانية دون تحديد لمساحتها ومواقعها حيث قامت إسرائيل في السنوات الأخيرة بإقامة البؤر الاستيطانية على قمم الجبال لتربط المستعمرات الإسرائيلية مع بعضها البعض وتشكيل كتل استيطانية تقدر مساحتها الحالية بحوالي 75% من المنطقة المعرفة بمنطقة "ج" كما أن هذا الطرح يمهد الطريق لفرض جدار الفصل العنصري كحدود مستقبلية إذ أن أكثر من 80% من مستوطني الضفة الغربية والقدس يقطنون خلف الجدار الفاصل إي في المنطقة الواقعة بين الجدار وبين ما يعرف بالخط الأخضر وهناك تكمن أيضا التكتلات الاستيطانية الرئيسية والتي تشكل ما يزيد عن 85% من مساحة البناء الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية والتي تستثنيها خطة كيري من أي وقف أو تجميد لعمليات البناء. أما المستوطنات المستهدفة "إذا ما صح التعبير" بوقف البناء فهي مستوطنات عشوائية أصلا وليست رئيسية في برنامج الاستيطان هذا بالإضافة إلى عشرات البؤر الاستيطانية التي أصبحت بحد ذاتها تشكل نواة تكتلات استيطانية يمكن في حال رفض الفلسطينيين العدول عن إصرارهم بقبول الشروط الإسرائيلية السالفة أن يتم تحويلها إلى تكتلات حقيقية. من جهة أخرى سيحاول كيري أن يدخل احد شروط اوسلو إلى حيز التنفيذ بعد قرابة 20 عام وهو إطلاق سراح أكثر من مئة أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال كان قد تم الاتفاق على إخلاء سراحهم خلال الفترة الانتقالية للعملية السلمية حينذاك . خارطة رقم 1
أما الهدف من طرح ما سلف في خطة كيري لإحياء العملية السلمية هو التمهيد للوصول إلى زبدة الحديث او جوهر خطة كيري ألا وهو تنشيط الاقتصاد الفلسطيني والتي تتضمن شروط ربما تبدو جرئيه للبعض (كونها تطرح من قبل الجانب الأمريكي) وهي دعوة إسرائيل على المصادقة على مشاريع فلسطينية في ما يسمى مناطق "ج" والخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال بالكامل بما في ذلك إقامة مدينة أو مدن سكنية جديدة ومدن صناعية في الأغوار ومشاريع سياحية على البحر الميت ومحطات لنقل الغاز والوقود. وقد أفاد كيري والذي أضحى خبيراً بالوضع السياسي والاقتصادي الفلسطيني إن هدف الخطة الاقتصادية هو التخفيف عن الشعب الفلسطيني من خلال إعادة تنشيط جبهة العمل والأعمال الفلسطينية وذلك بضخ المليارات من الدولارت وتحديد 4 مليارات والتي ستعمل على زيادة الناتج المحلي بنسبة تصل إلى 50% بالمئة خلال السنوات الثلاث القادمة بحيث تنخفض نسبة البطالة في المجتمع الفلسطيني من 22% إلى 8%. ولكن ما زال الغموض يكتنف وضعية المدن الصناعية هذه وإذا ما كان هناك اصلاً حاجة لمدن صناعية في حين إننا نفتقر إلى ابسط الموارد الضرورية لهذه المدن الماء والذي مازلنا نبتاع كميات كبيرة منه من شركة ميكروت الإسرائيلية. ايضا، ما لم يصرح به كيري في الخطة بأن تلك المنحة المهولة ستأتي ضمن برنامج متكامل من المشاريع مربوطة بجدول زمني محدد وبحسب التجارب السابقة سيعرض هذا البرنامج على الفلسطينيين باعتباره رزمة واحدة لنكتشف لاحقا بانها (أي الرزمة الاقتصادية) تتوجب على الفلسطينيين التعامل مع الوجود الإسرائيلي الاستيطاني في الضفة الغربية كامر واقع. بالإضافة إلى ذلك فإن المنحة الأمريكية للسلام من شأنها أن تطال إسرائيل أيضاً من حيث العوائد عن استيراد وربما التصدير باعتباره سيكون عبر المنافذ المسيطر عليها من قبل الاحتلال، هذا إذا لم تكن هناك أصلاً منحة مماثلة للإسرائيليين على غرار المنحة الفلسطينية.
وقد جاء حديث كيري عن مقترحه هذا بشكل مبطن يحيطه التهديد والوعيد إلى الطرفين ولكن يمكن القول بأن التهديد موجه أكثر وتحديداً إلى الجانب الفلسطيني عندما قال كيري بان هذا المقترح هو الفرصة الأخيرة لإعادة أحياء العملية السلمية وان احد لن يتدخل بعد ذلك وان المطلوب من الطرفين تقديم تنازلات في هذا الشأن وإلا فإن الوضع سيكون مرشحاً للانفجار والتدهور. ويتحدث كيري هنا مع الأطراف فارضاً شروطه كما يراها وهو أعمى لا يرى من الحقيقة شيء أو إلا ما يريده الإسرائيليون أن يراه تماما. كان الأحرى بكيري أن يتساءل لماذا البطالة مرتفعة أصلا في المجتمع الفلسطيني وإذا ما استعان بطاقم الخبراء من حوله لتوافق أكثرهم واقلهم خبرة في الإجابة ما بينهم وهي "الاحتلال" وإن الحل أيضاً لا يكمن في دعوة إسرائيل إلى المصادقة على المشاريع في مناطق "ج" بل الانسحاب من مناطق "ج" فكل المشاريع المطروحة حتى لو إنها ستساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الفلسطيني لأنها ستكون مؤقتة في أفضل الأحوال أو / وستكون رهينة بالرضا الإسرائيلي عليها. السبب إن مليارات كيري الأربعة لن تحرك ساكناً في وضعية الاقتصاد الفلسطيني المكتوب له التبعية الاقتصادية طالما هناك احتلال ولو أن هناك أمل بنجاح الخطة الاقتصادية هذه لكانت نجحت أصلا في تنشيط الاقتصاد الأمريكي والذي تم تغذيته بأكثر من 2 تريليون دولار أي ما يشكل 500 ضعف المبلغ المقدم لنا وهم 79 ضعف أكثر منا عدداً ولهم من الموارد الطبيعية والمائية ما يكفي العالم ومنافذ بحرية وأرضية وجوية وأكثر من ذلك، الأمر الذي يشير بأن هذه المنحة الاقتصادية لن تعمل أو إنها تهدف ليس إلا لتركيع الفلسطينيين بوضع المزيد من الاغلال على رقابهم لتتراكم عليهم الديون الاقتصادية ليصبحوا مطية ويمكن للبعض ويقصد بهم الفلسطينيين الادعاء ما يشاؤون بعدم قبول تنازلات سياسية أو الرضوخ فيما يتعلق بالأهداف الوطنية في مقابل القبول بمقترح كيري الاقتصادي وتقديمه على الحل السياسي أو حتى القبول بالحل الاقتصادي بحجة إنعاش حياة المواطن حتى تتم التسوية السياسية وهذا أمر لن يصدقه أحداً.